التخلف والتبعية

الثانية والثالثة 2020/04/21
...

محمد عبد الجبار الشبوط
 
أكرر دائما أن التخلف هو المشكلة الكبرى التي يعاني منها المجتمع العراقي ( وهو تعبير يشمل المواطن والدولة معا)، وان هذا التخلف واسع الارجاء عميق الجذور، يشمل الاقتصاد والسياسة والعلاقات الاجتماعية وفهم الدين وحتى العلاقات الدولية، و تنتج من هذا التخلف ظواهر كثيرة مثل الفساد المالي والاداري، والدكتاتورية، والعنف، و البطالة ، والاحتكار السياسي والاقتصادي، والنظرة الى المرأة، وغير ذلك، وان هذا التخلف يعود بالأساس الى حصول خلل حاد في المركب الحضاري للمجتمع، فالمجتمع بالاساس يتكون من الانسان والطبيعة، ومن العلاقة المعنوية التي تربط الانسان بأخيه الانسان، أي العلاقات الاجتماعية، والنظام الاجتماعي العام، والعلاقة التي تربط الانسان بالطبيعة، وهي علاقة تمر عبر العلم والعمل، فكلما كانت كمية العمل كبيرة ونوعية العلم جيدة، كلما أثمرت هذه العلاقة عن انتاج وفير، او التنمية المستدامة، وكلما كان توزيع الثروة، قبل الانتاج وبعده، قائما على اساس العدل والانصاف، كلما كانت العلاقة الاولى (اي علاقة الانسان بأخيه الانسان) سليمة وصحية، ما يعني ان البيئة الاجتماعية اصبحت سليمة وصحية، وهذا يؤثر بدوره في الاندفاع نحو العمل المنتج ومن ثم التحكم بشروط الانتاج المجتمعي بالشكل الذي يحقق السعادة للانسان بشكل عادل ومنصف وواقعي. وهكذا يكون التأثير متبادلا بين هذه العناصر، متصاعدا بشكل دائري حلزوني،  وتحيط بكل هذه العملية منظومة قيم اخلاقية حضارية عليا تشكل معالم السلوك الصحيح والمقبول والمرغوب به في المجتمع، وهذا كله هو ما اطلق عليه الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر مصطلح "المركب الحضاري"، الذي اقوم بدوري بملء الفراغات المعرفية التي تركها الصدر فيه.
فاذا ما حصل الخلل الحاد في اي مكان في هذا المركب الحضاري حصل التخلف جزئيا او كليا، التخلف الجزئي يصيب بعض مواقع المركب الحضاري، بينما يصيب التخلف الكلي كل مواقع المركب الحضاري، وبتصوري ان ما يعانيه المجتمع العراقي هو تخلف كلي، اطلق عليه اسم "التخلف الحضاري" للاشارة الى كل جوانب الحياة باعتبار ان كلمة "الحضاري" تشمل كل شيء في المجتمع والدولة.  بذل باحثون مرموقون جهودا كبيرة في تعريف وتفسير التخلف، منهم الباحث الاقتصادي المصري محمد عادل زكي الذي ألف عدة كتب أهمها "اقتصاد مصر" والاقتصاد السياسي للتخلف، وقد عرف التخلف كما  يلي:
"أما التخلف، ونقصد به دوما ظاهرة تجديد انتاج التخلف، فهو حالة التسرب في القيمة الزائدة المُنتَجَة بفضل سواعد الشغيلة في داخل الاقتصاد المتخلف الى خارجه صوب الاجزاء المتقدمة من اجل شراء السلع والخدمات، التي تنتجها مصانع هذه الاجزاء المتخلفة وتتوقف عليها عملية تجديد الانتاج الاجتماعي في الاجزاء المتخلفة".  
وهذا نص جيد، لكنه اقرب الى تعريف التبعية الاقتصادية  (التي هي ربما من فروع التبعية السياسية)، اكثر من كونه تعريفا للتخلف كظاهرة حضارية اجتماعية  شاملة، وهو يرد بذلك على معايير البنك الدولي  الستة لمعرفة مدى اندماج دولة ما فى السوق الدولية، وبالتبع مدى اندماجها فى المنظومة الرأسمالية العالمية ككُل. ويعد محمد  عادل زكي ان تعبير "الاندماج بالسوق العالمية" هو بحد ذاته المعنى الاخر للتبعية لانه يوحي بعدم  الاستقلالية، وهذا مبحث اخر خارج موضوعنا.الان السؤال الاهم هنا هو لماذا يحصل التسرب في القيمة الزائدة؟ او لماذا يزداد اعتماد المجتمع المتخلف اقتصاديا على المجتمع المتقدم اقتصاديا؟ والجواب الاولي الذي يقدمه محمد عادل زكي هو  فقدان المجتمع للسيطرة على الشروط الموضوعية، وهذا صحيح، فاذا فقد المجتمع السيطرة  على الشروط الموضوعية لانتاجه اصبح بحاجة الى انتاج غيره بقدر حجم فقدان السيطرة، وما اضيفه هنا هو ان فقدان السيطرة على الشروط الموضوعية للانتاج يمثل احد المظاهر الملموسة للخلل  الحاد في المركب الحضاري، يفقد المجتمع السيطرة على الشروط الموضوعية للانتاج بسبب عوامل  كثيرة متنوعة يمكن تشخيص بعضها على سبيل المثال والاستشهاد بالظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية والدينية والدولية، التي سادت العراق  خاصة والعالم الاسلامي عامة في الخمسين سنة التي سبقت سقوط بغداد تحت الاحتلال المغولي عام 1258.