تخفيض سعر الدينار وتأثيره في الاقتصاد العراقي

العراق 2020/04/22
...

* المهندس محمد صاحب الدراجي
 

في ظلِّ الظروفِ الاقتصادية الراهنة المصحوبة بالتخبط الحكومي في إدارة ملف السياسات النقدية والمالية في العراق، برز موضوع تخفيض قيمة العملة (devaluation) وهو خفض سعر الدينار العراقي إزاء الدولار الأميركي والعملات الأخرى بصورة مدروسة ومتعمدة مع ملاحظة أن ذلك يختلف عن التغير في سعر الصرف الذي يخضع لعملية العرض والطلب في أسواق العملة.

اطلعت قبل فترة على دراسة تم إعدادها من قبل البنك المركزي بخصوص هذا الموضوع وبعد التدقيق في هذا الأمر ونقاشات كثيرة مع الخبراء والمختصين ولاعتقادي بحاجة العراق لهكذا حلول اقتصادية في الوقت الحاضر ارتأيتُ أن أوضح وجهة نظر واقعية لعلها تسهم في بلورة رأي معين لدى أصحاب القرار في هذا الشأن. في الظروف الطبيعية يجب أن يكون هذا النوع من الحلول آخر الدواء ولكن للاسف سوء إدارة اقتصاد البلد وغياب المذهب الاقتصادي واستمرار الاعتماد على النفط كمصدر وحيد واستغلال الاقتصاد كأداة انتخابية أدت الى شِبه انهيار في الاقتصاد كلما قلَّ سعر النفط، كما أنّ فشل الحكومات المتعاقبة في دعم المنتج الوطني الصناعي والزراعي دفع أصحاب الاختصاص لأن يلجؤوا إلى هذا النوع من التفكير.
قد أتفق مع الدراسة التي أجراها البنك المركزي في كثير من النقاط التي تتكلم عن ضرورة إيجاد حلول اقتصادية أخرى غير تخفيض قيمة الدينار العراقي ولكن من خلال الخبرة واستقراء الوضع السياسي العراقي لا أرى في الأفق أيَّ مقدرة لدى أصحاب الحل والعقد على إحداث تغيير اقتصادي جذري بسبب الافتقار للفهم الحقيقي للمشكلة في العراق والنظر لها من منظار واحد قد يكون فئوياً أو حزبياً او شخصياً لذلك سينصب مقالي هذا على مناقشة فقرة تخفيض قيمة العملة المحلية إزاء العملات الأجنبية والرد على العوامل التي تؤثر أو ترتبط في عملية التخفيض. ولغرض الإحاطة بالموضوع من جميع الجوانب يجب مناقشة العوامل المرتبطة بهذا التخفيض ومن أهم هذه العوامل: -
 
أولا: ميزان المدفوعات
لا أعتقد أنّ العراق يتمتع بموقف قوي في ميزان المدفوعات لأن صادرات العراق نفطية فقط وبنسبة 99بالمئة، فإذا ما رفعنا أو حذفنا قيمة النفط المصدر وحسبنا ميزان المدفوعات بدونه سوف يكون موقف العراق سلبيا جدا. ومن الجدير بالذكر مناقشة ما جاء في دراسة البنك المركزي بشأن نسبة الفائض في ميزان المدفوعات والتي تم تقديرها بحدود 5.75بالمئة من الناتج المحلي لعام 2019، من ناحيتين الأولى في ما يتعلق بتضمين ميزان الصادرات النفطية من عدمه وتغير هذا الميزان بتغير أسعار النفط العالمية ومن الناحية الأخرى مناقشة سؤال حقيقي ومهم وهو كيفية حساب الناتج المحلي الإجمالي في العراق؟ وما هي نسبة قيمة صادرات النفط فيه؟ وهذا السؤال ينطبق أيضًا على نسبة الاحتياطي الأجنبي المتوفر في العراق التي تقدر بـ 70 مليار دولار والتي تمثل 30بالمئة من الناتج المحلي بحسب الدراسة فهنا تقع نفس المشكلة وهي كيفية حساب الناتج المحلي وبالتالي كيفية حساب نسبة كفاية الاحتياطي بمقاييس صندوق النقد الدولي أو المقاييس التقليدية الأخرى، من الواضح أنّ هناك عجزا في ميزان المدفوعات لأن ميزان مدفوعاتنا يعتمد بنسبة  كبيرة جدا على النفط وبالتالي العجز أو الفائض أو الموقف القوي يعتمد على سعر النفط عالميًا وكمية الإنتاج وكمية النفط المصدرة من العراق وعليه فإن الدراسة التي أعطت مقاييس لعام 2019 تختلف كليًا عن الواقع الحالي لسنة 2020 بسبب هبوط أسعار النفط وهنا أتفق مع عبارة وردت في دراسة البنك المركزي تقول (عندما يكون العجز في ميزان المدفوعات يكون ذلك سببًا في اللجوء إلى تخفيض العملة المحلية) وهذا الأمر الذي لا ينطبق على العراق في 2019  لكنه ينطبق تمامًاعلى العراق في سنة 2020.
 
ثانيًا: أسعار المستهلك
قد يكون هناك أثر لتخفيض قيمة الدينار العراقي في أسعار المستهلك، ولكنْ هناك نواح إيجابية كثيرة في هذا الإطار ممكن الإفادة منها وتحويل هذا التحدي إلى فرصة حقيقية لبناء مذهب اقتصادي يلائم الوضع السياسي والاجتماعي الراهن.
إنّ نسبة الاستيرادات في العراق كبيرة جدا والمعدل السنوي للمبالغ من العملة الصعبة التي تخرج خارج البلد لغرض الاستيراد تقدر بـ 48 مليار دولار سنويًا وفي حالة تخفيض سعر الدينار فإنَّ هذه المواد المستوردة ستكون قيمتها بالدينار العراقي أغلى من قيمتها الحالية في السوق المحلية مما سيؤدي إلى انخفاض الطلب عليها، وهنا مربط الفرس لدحض كل الادعاءات التي تتوقع غلاء في المعيشة من جرّاء خفض قيمة الدينار العراقي لأن هذا التخفيض يجب أن يكون مصاحبًا لمجموعة من الإجراءات الاقتصادية التي تكون داعمة له وأهمها السيطرة على أسعار قيمة المواد الغذائية والوقود أما باقي المواد الاستهلاكية التي يتم استيرادها وهي تعد من عوامل خراب اقتصاد البلد فيمكن معالجتها وتقبّل زيادة معينة في أسعار بعض المواد الكمالية غير الضرورية .
لذلك يجب أن يكون هناك حزم في تطبيق هذا التخفيض من أجل تشجيع المنتج الوطني ومن الممكن أن نعطي مثالا بسيطا  في هذا الإطار فإذا كانت هناك مادة نستوردها من دول الجوار وكانت قيمة هذه المادة دولارا واحدا فقط أي إن قيمتها 1200 دينار عراقي حاليًا  وإن كلفة إنتاجها من المواد الأولية المحلية قد تكلف صاحب المصنع العراقي 1300 دينار عراقي لذلك لا يستطيع المنتج المحلي أن ينافس المنتج المستورد سعريًا بسبب قيمة الدينار المرتفعة نسبيًا ولكن إذا كانت قيمة هذه المادة دولارا واحدا في ظل سعر صرف 1500 دينار عراقي وتبقى قيمة المنتج المحلي لنفس المادة 1300 دينار عراقي سيكون المنتج المحلي أرخص من المستورد بالقيمة المحلية وبالتالي هذا سوف يشجع أصحاب المصانع أو المزارع على الإنتاج محليًا وتشغيل اليد العاملة وتشغيل دورة الاقتصاد الكلي مرة أخرى لذا فإن هذا التخفيض سوف يكون له دور كبير في دعم المنتج المحلي، وقد لوحظ أن دراسة البنك المركزي تكلمت عن مدى توفر المنتجات المحلية كبديل وهنا نقول إنَّ قاعدة البيضة والدجاجة يجب أن تنتهي في العراق بمعنى هل نعمل صناعة محلية لكي نوقف الاستيراد أم نوقف الاستيراد لكي نشجع الإنتاج الوطني؟ أعتقد أنَّ الوقت قد حان لكسر هذه القاعدة وأن تضع الدولة حدًا للاستيراد من أجل تشجيع الإنتاج ولأنَّ رأس المال جبان وأصحاب المصانع لن يجازفوا بأموالهم لكي يوفروا مادة ليس لها سوق أو ليس لها مستهلِك أو منتِج أجنبي منافس بسعر أقل وعلى الدولة أن تكون حازمة وتقنن الاستيراد لكي يتمكن أصحاب المصانع من الإنتاج وجعل المنتج المحلي منافسا، من الجدير بالذكر أن تكون هناك فترة زمنية محددة يقل فيها توفر بعض المنتجات في الأسواق ولكن أعتقد بأن المنتج الوطني سرعان ما سوف يسد الفراغ وسنبدأ مرحلةً جديدةً من الاقتصاد العراقي.
 
ثالثًا: مستوى التضخم
العراق حاليا لا يعاني أيَّ ارتفاع في مستوى التضخم الأساس؛ لذلك فإنَّ تأثير تخفيض مقياس خفض العملة في مستوى التضخم الأساس سيكون محدودًا أي بمعنى إذا خفضنا العملة 30بالمئة ستزداد أسعار بعض المواد الكمالية بنسبة 12بالمئة وهذه الزيادة السعرية يمكن معالجتها من خلال تحريك الاقتصاد حتى إذا اضطررنا إلى زيادة الرواتب الاسمية وتحريك عجلة الاقتصاد من خلال ضخ النقد في الشارع لتحريك بعض القطاعات الصناعية والزراعية والإنشائية.
 
رابعا: زيادة النمو الاقتصادي والتجارة
بينت الدراسة التي أعدها البنك المركزي بشأن تأثير تخفيض العملة في زيادة نمو التجارة انَّ العلاقة بين تخفيض قيمة العملة وعجز الميزان التجاري وتحفيز الاقتصاد الوطني هي علاقة مشروطة ومحددة بعوامل منها:
أ‌- مدى قدرة الطاقة الإنتاجية الوطنية تكنولوجيًا وماليًا أو بشريًا على تصنيع ذات السلع المستوردة من الخارج بجودة مماثلة وبأسعار منافسة وإحلال المنتجات الوطنية مكانها.
ب- مدى المرونة السعرية للصادرات والاستيرادات بمعنى مدى تجاوب الطلب على الصادرات والاستيرادات مع تغير الأسعار الناتجة عن تغيير قيمة العملة. أعتقد أن العراق يمكن أن يحقق عائدا من هذا التخفيض في هذا الإطار والذي نقصد به إطار النمو والتجارة بسبب أنَّ صادرات العراق محصورة فقط في النفط الخام فإنَّ تخفيض عملته قد يزيد صادراته من مواد أخرى تشجع المنتج الوطني سواء كان صناعيا أو زراعيًا على زيادة إنتاجه وتحديدًا بعض المواد  القابلة للتصدير لكي تكون هناك مدخولات دولارية جديدة غير نفطية يمكن الإفادة منها كعملة صعبة لزيادة الناتج المحلي للوطن كما ان هذا التخفيض سيزيد ويقوي الصناعات العراقية المحلية لتكون قادرة على تعويض الاستيرادات لذلك إن تخفيض قيمة الدينار العراقي سيخفض نسبة كبيرة من الاستيرادات ويحافظ على العملة الصعبة الآتية من بيع النفط داخل العراق وتتحول هذه المبالغ بدلًا من إخراجها خارج البلد عن طريق مزاد العملة إلى ضخها في السوق المحلية لتحريك عجلة الاقتصاد، قد يكون المتضرر منها المصارف التي تعمل بمزاد العملة ومن وراءها.
 
خامسًا: آثار التخفيض في الفئات الاجتماعية الهشَّة
كما هو معلوم أن عدد المعتمدين على الحكومة في مدخولاتهم من الموظفين والمتقاعدين والمشمولين بشبكة الحماية الاجتماعية بحدود 6 ملايين مواطن فإذا أخذنا معدل خمسة أفراد للأسرة الواحدة يكون 30 مليون مواطن يعتمدون اعتمادًا كليًا في مدخولاتهم على دعم الحكومة وهذا يمثل 75بالمئة من أبناء الشعب العراقي. إنّ تأثيرات هذا التخفيض السلبية في القدرة الشرائية لهذه الفئة محدودة بسبب أن إجراءات التخفيض ستكون معها إجراءات لدعم البطاقة التموينية وزيادة في رواتب الدرجات الوظيفية الدنيا ومُنَح شبكة الرعاية الاجتماعية.
وفي الوقت نفسه على الدولة أن تتصرف كتاجر مواد غذائية بمعنى أن تستورد مواد غذائية أو توفرها من الإنتاج المحلي وتخزنها وتدفع بها إلى السوق في أي وقت يكون هناك رفع متعمد للأسعار أو عملية احتكارية معينة،وبذلك سيكون هناك أمن غذائي لهذه الفئات الهشة وأن تعمل الدولة أيضًا على دعم الوقود والدواء وتوجيه الموازنة العامة إلى الحصة التموينية والدواء وتعقيم المياه والبنية التحتية.
أما السلع الكمالية الأخرى فلا ضير أن نتقبل غلاء بعض المواد غير الأساسية مثال ذلك هاتف الموبايل بنسبة 12بالمئة او ارتفاع سعر العطور مثلا 12بالمئة، إنَّ هذا التأثير نسبي لا يعتد به أمام بناء اقتصاد قوي 
للدولة.
ومن ناحية أخرى لا أعتقد أن هذا التخفيض يؤدي إلى زيادة في النفقات الحكومية بالعموم لكنه قد يؤدي الى زيادة في نفقات البطاقة التموينية والتي لا تمثل 3بالمئة من مجمل الموازنة العامة للبلد وفي الوقت نفسه ممكن أن تستفيد من الزيادة في الإيرادات بالدينار العراقي في نفقات تشغيلية واستثمارية أخرى بنسبة تصل الى 25بالمئة، مثلًا إذا أصبح سعر الدولار 1500 دينار عراقي.
وفي الوقت نفسه سيكون لهذا التخفيض آثار إيجابية في تحويلات المواطنين المغتربين من الخارج لذويهم بحيث تكون قيمة ما يحولون من العملة الصعبة إلى داخل العراق أكبر من القيمة الحالية وهذا يؤدي إلى معالجة وضع فئة معينة أمام الغلاء النسبي المحتمل.
 
سادسًا: تأثير التخفيض في الدين العام
تبلغ ديون العراق الخارجية بالعملة الأجنبية نحو 23 مليار دولار (عدا ديون ما قبل 2003 المعلّقة والبالغة 41 مليار دولار) أما الديون المحلية بعملة الدينار فهي بحدود 40 ترليون دينار عراقي تشمل حوالات خزنية وسندات، وبما إن 95بالمئة من الموازنة العامة تعتمد على واردات النفط الذي يباع بالدولار لذلك فان الديون الخارجية لن تتأثر اي تأثر سلبًا أو إيجابًا بتخفيض سعر الدينار العراقي كونها مستحقات تدفع بالدولار الأميركي.
أما الدين الداخلي أو المحلي فبالتأكيد سيكون لتخفيض سعر الدينار تأثير إيجابي لصالح الدولة إذ إن قيمة الدين المحلي مقابل الدولار البترولي فإذا كانت قيمة الدين الداخلي 40 ترليون تساوي حاليًا تقريبًا 33 مليار دولار فإنها ستكون بحدود 26 مليار دولار إذا قلَّت قيمة الدينار بنسبة 25بالمئة وبذلك يكون ربح الدولة بحدود 7 مليارات دولار  وهذا يدل على أن تخفيض سعر العملة له تأثير إيجابي في الدين العام وبالتالي يقوي من اقتصاد البلد دون أن تُمس الديون الخارجية بأي تأثير سلبي وبالتالي لن يكون هناك تأثير سلبي في الوضع العراقي لدى المجتمع الدولي جراء هذا التخفيض في قيمة العملة المحلية.
 
سابعاً: تأثير التخفيض في الثقة بالعملة الوطنية
لا أعتقد (برأيي الشخصي)أنّ هذا التخفيض في قيمة الدينار العراقي سيؤثر في ثقة الأسواق والاقتصاديات العالمية بالعملة المحلية العراقية لأنَّ هذا التخفيض المزمع  يجب أن يكون مصاحبًا لمجموعة من القرارات الاقتصادية التي تكون داعمة لهذا التخفيض وتقلل أثره سواء على الاقتصاد الداخلي أو العالمي بالعملة العراقية وأهم هذه الإصلاحات هي السيطرة على التضخم المتوقع كما أشرنا سالفًا من خلال السيطرة على الغذاء والوقود والدواء، ضغوط الطلب على الدولار قد لا تتصاعد وإنما على العكس يمكن أن يكون المقابل المحلي لوحدة الدولار أكثر من ذي قبل فتتحول العملية الى عملية بيع الدولار ومحاولة الاحتفاظ بالعملة المحلية خصوصًا إذا رفعنا أسعار الفائدة على الودائع بالعملة المحلية كإجراء من ضمن القرارات الهيكلية التي يجب أن تصاحب عملية تخفيض العملة فتخفف بذلك الضغوط على سعر صرف الدولار.
أشارت دراسة البنك المركزي إلى وجود استقرار سعر صرف الدينار العراقي لعدد من السنوات وفي هذا السياق أعتقد أنَّ هذا الاستقرار غير حقيقي وإنما هو ضغط على سعر الدولار من قبل السياسة النقدية للبلد وبالتالي هذا الاستقرار بالنتيجة أعطى مردودات سلبية على الاقتصاد العراقي لذلك يمكن أن يبقى الاستقرار لكن على سعر صرف اخر أقل قيمة من السعر الحالي.
إذا لاحظنا أن التجربة اللبنانية استمرت عشرات السنين على سعر صرف 1500 هي مستقرة ولكن على سعر حقيقي للّيرة اللبنانية بينما يعتقد ان سعر الدينار العراقي على استقراره الحالي للسنوات الماضية لم يكن سعرًا حقيقيًا إنما كان سعرًا تمت هندسته من قبل القائمين على السياسة النقدية والمالية للبلد، أقصد هنا البنك المركزي وتحديد سعر الصرف في الموازنة العامة السنوية من قبل الحكومة واللجنة المالية في البرلمان العراقي.
 
ثامنًا: السياسة النقدية والمالية
قبل أن نخوض في تفاصيل هذا العامل يجب أن نجيب عن السؤال التالي: هل نتوقع أن تكون للعراق قدرة سياسية على إدارة السياسة النقدية والمالية في مواجهة الضغوط التي قد تنتج عن تقليل سعر الدينار العراقي مقابل وحدة الدولار؟ ما تحدد هذا هي قوة الإدارة السياسية في البلد وفهم القوى السياسية حقيقة المشكلة فأدوات السياسة النقدية المتمثلة بسعر الفائدة وسعر الخصم وعمليات السوق المفتوحة وإلى آخره هذه يمكن السيطرة عليها من قبل التنسيق ما بين مالك المال العراقي الذي هو وزارة المالية وما بين الحافظ لهذا المال وهو البنك المركزي ويكون مجلس الوزراء هو الفيصل والحكم في تقريب وجهات النظر بين المالك والحافظ، أما السياسة المالية فيجب على الحكومة والبرلمان مجتمعين ضبط النفقات والعمل على زيادة الإيرادات (وسبق أن تحدثنا كثيرًا كما تحدث غيري عن كيفية زيادة الإيرادات) وذلك لاجل ضبط مناسب للكتلة النقدية لكي نخفض من آثار التضخم على المواطن .
نعتقد انَّ النظرة التشاؤمية للإدارة المالية والنقدية في العراق يجب أن تتغير وإلّا سيبقى الحال كما هو عليه نعم هناك فشلٌ كبيرٌ في إدارة هذين الملفين لكنَّ لكل شيء حدا ونهاية وأعتقد انّ الوقت قد حان لإنهاء حالة الفشل للسياسة النقدية والمالية.
تاسعًا: تأثير تخفيض الدينار في الموازنة العامة
إنَّ الموازنة العامة هي إيرادات ونفقات، وبما أن مصدر الايرادات الرئيس للعراق هو النفط المباع بالدولار فبالتأكيد سيزيد تخفيض سعر الدينار العراقي من الإيرادات بمقدار التخفيض في سعر الدينار ففرضًا عندما يكون سعر الدولار الواحد 1500 دينار بدلًا من 1200 دينار فكل مليار دولار من الإيرادات النفطية ستكون قيمتها في الموازنة تساوي ترليونا ونصف الترليون دينار مقابل ترليون ومئتي مليار دينار بسعر الصرف الحالي.هذا الارتفاع في الإيرادات سيكون له تأثير واضح وإيجابي في الموازنة العامة أما النفقات فأود أن أُشير هنا إلى تقرير البنك المركزي ومناقشته مرة أخرى إذ إنه ذكر أن التخفيض سيشهد زيادةً في النفقات بسبب النقاط الآتية:
استيراد الحكومة من البضائع والخدمات
هذا مردود لأنه كما قلنا آنفا يجب أن تكون الحكومة هي السبَّاقة بتقليل الاستيرادات والاعتماد على المنتج المحلي مهما كانت الظروف وهذه فرصة لخلق اقتصاد محلي وزيادة الناتج المحلي من خلال زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي وتقليل الاستيرادات.
-2 تسديد فوائد الديون الخارجية
سبق أن ذكرنافي هذا المبحث إنَّ الديون الخارجية لن تتأثر بتخفيض سعر الدولار وإنما الديون الداخلية ستقل قيمتها بالنسبة الى الدولار البترولي.
3 - الاستثمارات والاشتراكات الخارجية
هذه لا تمثل نسبةً يعتد بها وهي أيضا بالدولار ونحن مواردنا بالدولار ولذا يعتبر هذا الأمر مردودا أيضًا.
-4 تسديد الاستثمارات ذات العلاقة بالنفط
يعلم الجميع أن تسديد مستحقات الشركات النفطية هو عيني بالنفط فلا علاقة للدولار او الدينار بذلك.
5 -البطاقة التموينية
لا أتفق مع تقرير البنك المركزي الذي ذكر أن أغلب مواد البطاقة التموينية استيرادية، فالبطاقة التموينية التي يجب أن تتطور حاليًا تعتمد على أربع مواد رئيسة وهي الرز والطحين والزيت والسكر ثلاث منها وهي الطحين والزيت والسكر يتم شراؤها محليًا فخفض قيمة الدينار سيوفر أموالا للبطاقة التموينية عند شراء هذه المواد والمادة الوحيدة التي يتم استيرادها هي الرز، وبنفس المنطق الذي تكلمنا به في هذا المقال فالدولار النفطي لن يتأثر لأنَّ العراق يبيع النفط بالدولار ويستورد الرز بالدولار. فبالمجمل سيؤثر خفض الدينار إيجابًا في البطاقة التموينية.
6 - رواتب الحماية الاجتماعية
في حال تخفيض الدينار يجب على الحكومة أن تقوم بزيادة رواتب الحماية الاجتماعية بنفس نسبة التضخم المتوقعة التي هي 12بالمئة. وبذلك نزيل تأثير التضخم المحتمل عن كاهل الفئات الهشة مجتمعيًا.
 
الاستنتاجات:
في نهاية المطاف إن تقليل قيمة الدينار تدريجيًا سوف تكون له آثار إيجابية في اقتصاد البلد، يمكن الإفادة منها وأخرى سلبية يجب اتخاذ إجراءات مسبقة لتجنبها لكي يكون الناتج الإجمالي إيجابيا على الاقتصاد الوطني ولتجنب الهزَّة الاقتصادية المتوقعة.
أما الإيجابيات فتتمثل بالآتي:
1 - تشجيع المنتج المحلي الزراعي والصناعي.
2 - تحريك عجلة الاقتصادات الجزئية في البلد.
3 - تشغيل أيدٍ عاملة وامتصاص البطالة.
4 - زيادة إيرادات الموازنة العامة وتقليل النفقات الاستيرادية.
ومن الطبيعي أن تكون لهذا الإجراء آثار سلبية، لذلك يجب على الحكومة اتخاذ سلسلة من الإجراءات بالتوازي مع هذا التخفيض تتمثل بالآتي:
1 - ايقاف مزاد العملة للحفاظ على العملة الصعبة في داخل البلاد وان يجري بيع وتداول الدولار والعملات الاجنبية الاخرى مباشرة في أسواق العملة او من خلال سوق الاوراق المالية، لكي نحصل على سعر حقيقي للدينار العراقي مقابل الدولار الاميركي، وأن يكون الضامن للأسعار هو قيمة الاحتياطي المتوفر لدى البنك المركزي العراقي من العملة الصعبة.
2 - وضع منهاج استيرادي ووقف بعض الاستيرادات وضبط المنافذ الجمركية ودعم نظام الضرائب وإعفاء المنتج المحلي من ضريبة الدخل لمدة سنتين.
3ـ بناء الموازنة على سعر بترول ثابت للموازنة التشغيلية ومتحرك للموازنة الاستثمارية، وتوجيه الموازنة للرواتب وشراء الحصة التموينية والأدوية وتعقيم المياه والعملية التعليمية فقط.
4 - تأجيل مستحقات الشركات النفطية أو دفعها عينيًا خارج حصة أوبك.
5 - بيع كوبونات نفط محليًا، بالسعر السائد الآن وشراؤها بعد سنة بالسعر السائد حينها.
6 - زيادة الرواتب الاسمية بمقدار ١٠بالمئة وإعادة النظر بالمخصصات العالية تحقيقًا للعدالة الاجتماعية وزيادة رواتب شبكة الحماية الاجتماعية بنسبة 12بالمئة
7 - قيام الدولة باستيراد مواد غذائية تجارية للأسواق وضخها ضمن برنامج الحصة التموينية في حالة ارتفاع الأسعار. وتفعيل دور الأمن الاقتصادي ودخول الأجهزة الحكومية المختصة لضبط الايقاع النقدي في سوق العملة وأسواق بيع المواد الغذائية.
8 - دعم الوقود للنقل والمصانع وإيلاء أهمية نسبية عالية للصناعات 
الغذائية.
9 - ضخ عملة صعبة لأسواق التصريف للحفاظ على مستوى سعري للدينار العراقي يحول دون انفلات السعر بحيث يزيد انخفاضه على 30بالمئة خلال سنتين.
10 - قيام وزارة المالية باصدار الدينار الالكتروني لغرض جباية الايرادات الحكومية والرسوم المستحقة وما يميزها انها غير قابلة للتداول بالاسواق كنقد وبذلك نكون قد قللنا من الفساد في هذا الجانب وكذلك معرفة الدولة قيمة تلك الواردات بشكل سريع على ان يتولى اصدارها مصرف حكومي ولا يتم من خلال شركات أهلية.
وختاما ان اجراء كهذا يحتاج الى قرار شجاع من رجال دولة قادرين على إدارة مرحلة يمر بها العالم عمومًا والعراق خصوصًا، رجال الدولة الذين يقودون المجتمع ويديرون مؤسسات الدولة بحرفية من دون الالتفات الى المصالح الحزبية او الفئوية او الانتخابية، بل يضعون مصلحة العراق اولا.
*عضو اللجنة المالية