سرديَّة الأزمنة المتقابلة للقاص نبيل جميل

ثقافة 2020/06/12
...

جبار النجدي
يقال إن القصة هي نوع من تهذيب الأكاذيب، غير أن قصة (فتى الحروب ) للقاص نبيل جميل، تنزع إلى العكس من ذلك تماما؛ فهي تنفتح على عالم واقعي مخيف وقلق، تشوبه ظلال دامية ونظام يلفظ حشرجاته الأخيرة. إن القاص يشتغل على تقنية التقابل الزمني في القص، ويلامس ما يحدث من فوضى وارتباك وعوالم متحركة وفق أجواء الايام الأخيرة للحرب،فالسردية في القصة تعطي شكلا للفوضى عبر القص ورصد كل ما يجري،تبعا لطبيعة الأحداث التي تنتج النص وليس السارد ذاته، في سردية منطوية على مغريات الترقب .إن أمكنة السرد ومن خلال أشد تصريحات المكان لمعانا مغمورة في الظلمة ليلا، والدروب والأشياء لا يمكن تمييزها بوضوح إلاّ عبر ومضات ساطعة للمدافع والبنادق المتربصة. تتوزع أدوار القصة على ثلاث شخصيات رئيسة؛ الراوي وهو غير منظور وخفي عن الأبصار عن قصد، وشخصية أخرى اسمها فريد، وفتاة مجهولة وبطلة (لاوجود لها )، يظهر فريد في النهار الذي سبق ليلة انهيار النظام غير مبال بما يحدث،برغم تقابل زمنه السردي مع السارد والفتاة، فهو يجول في الأسواق، وصلب الإرادة يغوص في قلب الاشياء في الحياة المرتبكةغير متحسب لمجرياتها.إن القص يجري على ثلاثة مستويات سردية متشابكة ومتداخلة،وتترك لقارئها الكثير من الخيارات، أما الفتاة فلا وجود فيزيقيا لها؛إنها بطلة لاوجود لها في ثنايا السرد سوى ذكريات السارد عنها، وهو يعيش في قلق المجهول.إن التكتيك في قصة فتى الحروب يلم بأطراف ما يحدث بقدرات مميزة واستثنائية الطاقة والدأب، وقدرة على ضبط المتاهة السردية واستطراداتها، فالقص لا يخلو من رصانة برغم تعدد الثيمات السردية وتداعياتها، فثمة ملكة سردية تقدم برؤى واقعية، لكنها تلامس الخيال أحيانا، وهي معادلة لمجموعة العلائق التي ينتجها السرد، في يوم وليلة نادرتين، يمتهن (فريد) التطواف النهاري لدرجة انه في الليل :
(يضطر إلى وضع قدميه في إناء كبير مليء بالماء الدافئ المملح)، ولا يكترث لما يحصل في الليل من قتال بأطراف المدينة، لكن السارد يذكر أن فريد يصيح من سطح الدار (اصعد لترى القنابل العنقودية،، تعال،، انظر كيف تنفلق )، لقد كان مرتبكا مرعوبا بسبب جروح كثيرة أصيب بها السارد بحروب سابقة،لتصبح المقابل النفسي لما يحدث الآن، إن الأحداث تجري في بيت صديقه فريد أثناء زيارته له،والسارد يقص بضمير (الغائب ) وهو غير مسمى، فهو ليس ساردا عليما، بل هو محايد، لكنه بين آونة وأخرى يتذكر حبيبته (نون) :(في تلك الليلة اخرج صورها ورسائلها ونثرها حوله ونام، لكنه استيقظ أكثر من مرة على صوتها العذب يناديه من بعيد )، وعلى الرغم من أن الحرب تخلق بيئة مشتركة بين الناس، إلا أن السارد لم يكنعلى وفاق مع والده الذي يهينه باستمرار،لذلك قرر ان يؤجر غرفة في الفندق، ويحمل مع حقيبة ملابسه الكثير من الأشياء والحاجيات، مثل الطعام والفستق وقنينة الجن، وبطريق عودته إلى الفندق ( داهمه شعور بأن مدينته مهجورة، كانت القمامة منتشرة في كل مكان، كانت غرفة الفندق ثابتة لاحركة فيها،كان الصمت يضيف معنى آخر للقلق ويحيطه بألوان الكلام الصامت، فالصمت بالنسبة له هو كل مالايقال بكلمات، ومن باب اراحة النفس كرع كأسا بتلذذ، وهو يسمع الإذاعات التي تقول سوف تسقط بغداد في غضون ساعات، بعد أن سقطنصف البصرة، كان صديقه فريد يشاركه مائدة الخمرة)، ولم يخف السارد رغبته في إظهار مهاراته في إخفاء الحل أو عقدة القصة، وذلك بخلق رغبة الفضول لدى المتلقي لإثارة الاحاسيس الغامضة حول النهاية المقترنة بالغد، فالصمت في هذا المقطع من القصة هو عبارة عن تداعي أفكار وذكريات، والعكس ليس هو الصحيح، وبناء على ذلك يذهب إلى وجه المرأة الماثل في الرجل، حبيبته (نون) :(حين التقاها أول مرة في صالة فندق الشيراتون تتلذذ في طعم القبلة الأولى،كانت منجذبة إليه جدا،وهو يعصرها بين ذراعيه). يمتلك القاص نبيل جميل خاصية سردية تقوم على الاقتضاب برغم أن الوقائع اوسع من أن تستوعبها عين، غير أن الفتاة (نون) لا ارى دورا لها في القصة،فهي لم تشارك في مجريات القص إلا عن بعد، ولم تقل له سوى: (توقعت أن يكون لك مستقبل جيد، الحروب والمقابر والأمراض)، وهو يقول لها: (ثرثارة ثرثارة لكني أحببتك)، ولم أفهم أبدا الضرورة السردية لاقحام كتاب جماليات المكان لبلاشار والمغزى من ذلك، لكن القص لدى نبيل جميل يفتح طرقا لا تنتهي، فالمكان لديه مقترن بالحياة ويحمل قوة غريبة. إن السرد لديه لايميل الى طول استقرار، فهو يحيد عن مقاصده البدئية مكتشفا مسالك مضافة إلى السرد في قصصه، إلى جانب الأسلوب الأنيق الذي هو رمز ودليل على شيء هو من أخص مميزاته السردية، الناجمة عن صواب التدبير في اجتراح نموذج غير تقليدي في القص، يرى حتى لوكان معصوب العينين