فتنة الحبّ الأبدي

ثقافة 2020/06/17
...


عبد المجيد محمد خلف
 
قامت دار ضفاف للنشر (بيروت، لبنان) بإصدار المجلد السادس للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي (أديب كمال الدين)، العام 2020، ويقع المجلد في (285 صفحة) من القطع المتوسط. 

ويُقسّم المجلد على خمسة دواوين شعرية، وهي تباعا: (شخصيّات حروفية - حرف من شمس- فتنة الحرف- قال لي حرفي - وكان له حرف).
 
روب إلى الأنا
يمضي في دروب الحياة باحثا عن ذاته الغائبة، والمتماهية مع ذوات الآخرين في كل واحد، لا رغبة له سوى أن يصل إلى مفهوم جديد للحياة، وللحب والصداقة مع الآخر، الذي يجسد نفسه هو، والذي هو عينه، فجميع الدروب التي يقصدها، تأخذه إلى الأنا، التي يقصد بها المجتمع الإنساني كله، وكل من مثله يعانون من آلام مبرّحة، ويحتاجون إلى البوح عن تلك الآلام، لعل البوح يكون نهاية المطاف لأوجاعه، ويخفف عنه معاناته الأبدية، فهو لا يحتاج إلى أحد إلّا لكي ينقل له الرسالة التي يحملها في ثنايا روحه، والتي يسعى بها إلى أن يُسْمعها إلى المحتاجين 
مثله. 
ومَنْ مثل الأعمى والتائه بحاجة إلى ذلك؟! ليؤسس مملكة حبّية جديدة، وعالما روحيا ساميا، وخالصا للعشق الإنساني الصوفيّ، الذي يدفع بصاحبه إلى التفاني من أجل البشرية حتى آخر لحظة، وهي لحظة الفناء والاندثار والموت، ليكون بعدها الرحيل عن الوجود مستحقا، فالحاجة إذا من تدفع بقاربه إلى أن يخوض غمار العمر، ويمضي بمحاولاته إلى أن يشكل مع أي إنسان محتاج صنواً، وعلاقة لا انفصام لترابطها، وعروة وثقى لا توجد هناك ما يسبب تداعيات لها.
بهذا المفهوم يريد من رفيقه الإنسان أن يقوده إليه، ليبنيا عالما مليئا بالحب والوجد، والتفاني في سبيل تلك العلاقة حتى النهاية، يقول في قصيدته التي عنونها بـ (الآخر الذي هو أنا): 
" لم أكنْ مُحتاجاً إلى ما تقول،
كنتُ مُحتاجاً إلى شفتيكَ.
ولم أكنْ مُحتاجاً إلى شفتيكَ بل إلى لسانِك.
لا لم أكن مُحتاجاً إليه بل إلى روحِك.
لا لا لم أكنْ مُحتاجاً إليها بل إلى حائك،
أعني إلى بائك،
أعني إليك.
وأعرفُ أنّكَ لا تعرفُ نَفْسَكَ مِثْلي
فقدْني إليك.
نعم،
جميلٌ أن ألتقي بأعمى مِثْلي،
تائهٍ مِثْلي
يبحث عنّي
ولا يتركني أهذي في الطّريق
إلى أن أموت".
 
زمن العُري والموت
وطن محفوف بوجع مازال يسكنه منذ زمن، ويرفض أن يغادره؛ من دون أن يترك آثار ذلك الوجع كوشوم في أجساد أبنائه الذين يعانون الأمرّين، ويدفعون أجمل لحظات عمرهم قربانا لسكنهم فيه، ويتيهون في طيات زمنه الذي لم يرحم بعد، ولم يسدل ستارة الألم على أيامهم التي تحفل بالكثير من الأشواق، والرغبات من أجل الخلاص عبثا، والحبل ما زال على غاربه، لا جديد فيه، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق الرحب!
على الرغم من أنه كان في زمن ما أرضا لحضارات تعاقبت عليه، ونشر رسالة الحب للبشرية جمعاء، هو بلاد ما بين النهرين، هو أرض دجلة والفرات، الأرض التي أغدقت على الجميع بالحب، ودفعت بـ كلكامش، وجميع من جاؤوا بعده إلى البحث عن الخلود في رحلة لا نهاية لها، ليتعاقب الظلام بعد ذلك، والموت، فيتحكم بناصية الزمن، ويودي بأبنائه إلى المصير المجهول، المصير  الذي سوف يلاقي فيه الأهوال، والمصاعب، لتبقى الغصة في قلبه، ويعتصر البكاء في روحه مثل نهري دجلة والفرات على أيام مضت، وتطلق حنجرته الصوت عاليا، ليلتقي بالشاعر السيّاب تحت حبال المطر المتساقطة عليهما منذ الأزل، وينذر معه بأنه سيعيش أياما قاسية، تمسح آثار الأزمنة البائدة، فيرحل الحب والشوق، لتحلّ الكوارث والحروب التي لا تنفعها تمائم، ولا أدعية، فالحرب فتحت فمها، كنار ملتهبة ستحصد بألسنتها الجميع، وتتوه صرخات التنبيه في الهاوية، وتذهب سدى كل المحاولات من أجل إعادة الماضي إلى ما كان عليه، فتبدأ الأحلام تنغص عليهم عيشهم، وتقتل كل شيء جميل لديهم، يقول في قصيدة بعنوان 
(لم تكن):
"حذارِ من هذا الزّمان
وأكاذيب هذا الزّمان.
إنّها لم تكنْ
غلطة قلبي الذي كانَ له 
أن يكونَ دجلة حلمٍ
وفرات حرفٍ وحُبٍّ وشوق. 
إنّها لم تكنْ
غلطة أنشودةِ المطر
أيّها الشّاعرُ الذي سيرى
مِن الهولِ ما يكفي لقتلِ بلادٍ
لا يكفُّ ليلُها عن الهَلْوَسَة 
ولا فجرُها عن التمتمة".
طفل الحرية
مكان يقبع على رفات المعذبين في الأرض، لحظات لا تنتهي من الخوف الأبدي، ورغبة دفينة في إعادة الذاكرة إلى ما قبل الطوفان الذي انداح ذات يوم في أعمارهم المتروكة للعري والموت والفناء، ولتلعب بها رياح الفناء كيفما كانت، وشاءت، وترفع عقيرتها، دافعة إياهم إلى الوقوف قاب قوسين أو أدنى من حافة القبر الذي فتح فمه ليحصد مع الحرب أرواحهم، ويحصل على قسمته من الأجساد التي ستأتي إليها زائرة، بعد أن ينهكها الدمار، لتنطلق الأرواح في محاولة أخيرة في رحلة البحث عن الحرية التي أدارت لهم ظهرها، ومضت إلى غير عودة، تاركة إياهم بين أنياب الحرب، نالت منهم، وفتحت ناعورة الدم في أجسادهم المتشحة برائحة القلق والخوف والضياع، فتكون المفارقة هنا، الرغبة في تحويل الموت إلى حياة، ومكان الموت نفسه أيضا، ليكشف النص عن تلك المفارقة من خلال اللجوء إلى التعبير صراحة، وبشكل صارخ، برغبته العميقة في ذلك، فهو ابن الحرية، ابن الحياة التي أنجبته حرّا طليقا، يكره القيود والعبودية، ويسعى إلى الخلق والإبداع في كل لحظة، فلماذا إذا يرضى على نفسه أن يرسف في القيود التي تمنعه من تحقيق غاياته، وتأمين العيش الحرّ الكريم له، ليتعمق المكان مع الزمان في كل واحد، ويصبحا معا رمزا لذلك التماهي والاختزال الذي يدمجه الشاعر في كل واحد، من خلال إطلاق صرخته في الحياة، في كل مكان، وندائه للحرية، فهو ابنها، وهو طفلها المجنون، وسيبقى باحثا عنها حتى نهاية عمره، لأنها تستحق ذلك، ولينتقل بعدها من عالم الظل، إلى عالم كل ما فيه نور، وأمل وسعادة، يقول في قصيدته بعنوان (حيث تبدأ 
الحرية):
"سأصرخُ حتّى الموت،
سأصرخُ في كلِّ مكان:
أيّتها الحرّيّة،
أنا طفلكِ اللانهائيّ،
أنا طفلكِ المجنون".