شاكر خصباك ومنعطف التعدد اللساني

ثقافة 2019/01/02
...

د. نادية هناوي
للقصة القصيرة في مرحلتها الخمسينية في العراق سمات أسلوبية، حرص كتّاب هذه القصة على توكيد قدراتهم فيها، إتقانا لمختلف تكنيكاتها الفنية وتباريا في إثبات مهاراتهم السردية، وقد حاول كل قاص تلمس تحولات أسلوبية جديدة تعطي له تميزا قصصيا يؤشر إلى خط خاص به وحده. وواحدة من تلك التحولات هي التوظيفات الأسلوبية باستعمال تكنيكات تيار الوعي، التي جعلت القصاصين يعطون لموضوعاتهم القصصية غورا نفسيا وعمقا فكريا، متجاوزين كلاسية النسج المتوالي للأحداث استرجاعا واستباقا باتجاه صناعة نسيج لفظي، به تصبح للشخصية القصصية أبعادها النفسية الخاصة بها. وهذا ما يعمّق التأزم ويجعله متصاعدا على وفق دراماتيكية سردية تعقِّد الحبك وتخلخل توازنه لتنتهي به متوازنا وقد غدا أكثر متانة وقوة.

نسج لفظي
وبالنسج اللفظي تتحول الشخصية من مجرد كائن ورقي يطوعه السارد كيفما يشاء إلى كائن اجتماعي بهيأة لغوية مستقلة، فالشخصية تفكر وتتساءل وتبوح وتهمس في شكل تداعيات شعورية وانثيالات ذهنية، وفي الوقت الذي يتقلص تحكم السارد العليم بالشخصية، يزداد استقلال الشخصية ومن ثم استحكامها على مجرى السرد.
ولعل من نتائج النسج اللفظي الماهر والمتقن هو التعدد اللساني الذي يتحاور فيه الفصيح مع العامي والعامي مع العامي والفصيح مع الفصيح في دوامة أسلوبية شعرية داخل اللغة الواحدة كأسلوب سردي يولده التداعي الحر بالمونولوجات والديالوجات  .
وهكذا يغدو الحوار المتسم بالتعدد اللساني متعديا الأسلوب التقليدي إلى الأسلوب غير التقليدي بمعنى أن الحوار لا يعود اشتغالا لسانيا وأسلوبيا فقط وإنما هو فعل حواري يمسرح الشخصية مشركا إياها في عمل السارد.
ولا مناص من أن يكون الحوار في الخطاب التقليدي هو نفسه السياق ليتداخلا بشكل مباشر في التعبير عن الموضوع المتناول، في حين يغدو الحوار في الخطاب غير التقليدي محولا خارج السياق نفسيا بالتداعي الحر، لتكون العلاقة بين الكلمة وسياقها غير مباشرة حيث الكلمة تفترض شيئا هو خارج سياقها أصلا.
وهذا الداخل / الخارج الأسلوبي هو تمظهر من تمظهرات التعدد اللساني كما سماه ميخائيل باختين لكنه قصر حديثه عنه في حدود الموضوع الذي إذا كان هو "نقطة ائتلاف أصوات مختلفة داخلها يتحتم أيضا أن يدوي صوته فمن أجل صوته تخلق الأصوات الأخرى " ( كتاب استطيقا الرواية ونظريتها ) لكن ماذا عن الذات وحوارها الذي به يقترن التعدد اللساني كي يكون أكثر ذاتية وأكثر سيكولوجية ؟! فبالذات يصبح الخطاب عضويا وينحصر في الحوار الدائر حول الموضوع المتحاور فيه.

مونولوج وديالوج
وعادة ما يتوزع الحوار بين مونولوج داخلي وديالوج خارجي. فأما الداخلي فينقسم إلى تداع مباشر وحوار داخلي حر غير مباشر، وأما الخارجي فينقسم إلى مباشر وغير مباشر حر، وقد تكون لواحدة من هذه الحوارات أولوية على غيرها كأن تتفوق العامية على الفصيحة، وقد يكون العكس أي أن يندمج الملفوظ الحواري الخارجي من جهة بالملفوظ المونولوجي الهامس أو الصامت من جهة أخرى أو تشترك اللهجة العامية باللغة الفصيحة فيكون الخطاب مفصحا.
هذا الذي نقدمه عن التعدد اللساني كسمة أسلوبية سردية تعطي لصاحبها تميزا إبداعيا يشتغل على بؤرة خطابية هي الحوار، هو ما تجسَّد عمليا وشخصّناه إجرائيا عند القاص العراقي شاكر خصباك في قصصه القصيرة التي كتبها في خمسينيات القرن الماضي والمنشورة في مجلات عراقية ومصرية ولبنانية.
ووقفة متأنية عند هذه القصص تكشف لنا عن أسلوبية التعدد اللساني في توظيف الحوار ففي قصة( الأغلال) المنشورة في مجلة الرسالة المصرية عدد 857 العام 1949، نجد الطالبة إحسان طالبة تكابد ـ عبر توظيف تيار الوعي ـ تجربة الانشداد إلى حلم واه لا أساس له من الصحة، يتمثل في تعلقها بحب شاب يعمل حمَّالا. وتؤدي شدة الانشداد بالساردة إلى التعدد في لغتها أسلوبيا بين استرجاع تجربة هذا الحب من طرف واحد وبين حوارها الذي يأتي باللغة الفصيحة مع زميلاتها الأخريات وباللهجة العامية في تداعياتها المونولوجية مع نفسها.
وتكون نهاية القصة عبارة عن مفارقة ساخرة إذ ستكتشف إحسان أن الحمّال لا يكن لها مشاعر مماثلة، وهو إذ ساعدها فلأنه انطلق من وازع أخلاقي. وبهذا يزول اللاتوازن وقد بدا هول الصدمة قاسيا عليها داخليا بالتداعي الحر بضمير الأنا" أحس أنني سأتفجر من شدة الغم والألم والضيق ثم ارتد إلى طرفي مبللا بالدمع حينما تلاشى شبحه في النور الخافت" والقصة تسير على خط واقعي نقدي، فالأحلام ليس لها إلا الزوال لأنها واهية بلا أساس تماما كحلم زوال التفاوت الطبقي بين الناس الذي سرعان ما سيتحطم على صخرة الواقع.

التعدد اللساني والصوتي
ويتضح التعدد اللساني في قصة( الكسيح) المنشورة في مجلة الآداب العدد الأول فبراير 1953 من خلال الحوارات التي تكون أغلبها متداعية فنكتشف أن تأزم السارد ناجم عن تأسيه على العم عبد الحسين الذي أراد تحقيق المصلحة العامة فكان ضحية لها. وقد ذبح من الوريد إلى الوريد.
وأسهم توظيف السارد للعامية في شكل مونولوجات وهذيانات وتساؤلات دورا مهما في تعميق هذا الأسى وتوصيله إلى القارئ، والقصة تنتهج كسابقاتها مذهب الواقعية النقدية، كاشفة عن اصطدام التطلعات والمبادئ بالواقع المرير والقاسي.
ويتخذ التعدد اللساني من تيار الوعي غطاء نفسيا في قصة( صديقي حمود) المنشورة في الأديب العدد الثاني عشر العام 1949 في صيغة التقطيع ونقاط الحذف كانعكاس كتابي لتأزم نفسي يعيشه السارد الذاتي وسبب التأزم الحياة القاسية التي لا عدالة فيها والقصة تبدأ بصوت متذمر ضجر " آه من البرد  ..برد أينما أسير تطرق أذني عبارات الشكوى من البرد ..ما هذا البلاء ش ش..شش باردة باردة" ويتحول الصوت إلى أسلوب التذكر استرجاعا مبينا علاقة السارد بصديقه حمود وابنته ذات العينين المتورمتين.
 وبالتعدد الصوتي تتفصح اللهجة العامية ونكتشف أن أزمة السارد الذاتي هي الحياة نفسها أي الخشية من مداهمة الموت لها ويحتل الوصف مساحة مناسبة من هذه القصة.
ويتضح التعدد اللساني منذ بداية القصة ( خصام ) القصيرة المنشورة في مجلة الأديب العدد الحادي عشر ديسمبر، عام 1955  التي تكون في شكل حوار بين الشخصيتين القلقتين سهيلة ونزار والسارد العليم يدخل إلى بواطنهما ناقلا خشية كل واحد منهما على الآخر، فسهيلة تخشى أن يكون نزار قد فقد حبه لها ونزار يخشى أن تكون سهيلة قد تغيرت.
وهذه الشخصية تتجسد أسلوبيا بحوارات خارجية باللغة الفصيحة وتداعيات حرة في شكل مونولوجات داخلية باللهجة العامية ينقلها السارد لنا كاشفا عن مخاوف متدارية في خلد الشخصيتين.
ويحقق التعدد اللساني لازمة الشخصيتين تعقدا صوتيا أكثر" كأن صياح سهيلة ما يزال يدوي في أذنيه فيثير بين جوانحه انزعاجا حادا" ومن ثم يصبح النسيج اللفظي لازمتهما معادلا موضوعيا لازمة شعب لم يعد يجد في مثقفيه من يوليه اهتماما حتى صارت الجفوة بين سهيلة ونزار هي الجفوة بين الأديب ومجتمعه، وإذ يفهم الرسام نزار أن الكفاح والرسم وسهيلة جزء واحد لا يتجزأ فان استفهامه الإنكاري الذي تتردد في ذهنه : ( كيف اجعل سهيلة تفهم الموقف كيف ) هو توكيد لواقعية شاكر خصباك النقدية التي ترتفع بالموضوع نفسيا إلى مستويات واقعية واجتماعية. وما انهزام نزار أمام كلمات سهيلة ونظراتها إلا انهزام الفنان اجتماعيا أمام جمهوره الذي لم يعد يفهم انهزاميته.
ومثل ذلك نجده في قصة( العاشقة) المنشورة في مجلة الأديب العدد الثاني مارس العام 1956
والشخصية سلوى طالبة هائمة وعاشقة تتأزم بموضوعات كتاب الفيزياء الذي عليها أن تنجح فيه ويكشف التعدد اللساني في حوارها مع صلاح وحوارها الداخلي مع نفسها كثيرا من  خبايا هذا التأزم باستعمالالعامية المفصحة" وزفرت سلوى زفرة حلوة وقالت وهي تزحزح الكرسي وتنهض أوف ربي" .
ولن يخرجها من أزمتها سوى تداعي أفكارها عن صلاح بأوصافه واسلوبه ويكون المونولوج أسلوبا لسانيا به تعبر عن الشرود الذهني الذي يلازمها وهي تحاول فهم موضوعات الكتاب وتنفرج أزمتها وتتبدد كآبتها بحلم لقاء أثير بشاب يمنحها ما تحلم به من الحرية.
وستبدو الواقعية النقدية واضحة مباشرة في ختام القصة " نحن بحاجة إلى فتيات مثقفات يعرفن مركزهن وواجباتهن تجاه الوطن والمجتمع " وكأن أمل الجماهير بقائد يحقق لها تطلعاتها مخلصا إياها من نير الاستعمار والتبعية هو مجرد حلم واه ليس إلا . والمطلوب اذن  من الجماهير هو أن تكون قاعدة صالحة للقيادة قبل أن تفكر بالقائد، تماما كسلوى التي عليها أن تنجح في مادة الفيزياء قبل أن تفكر بالزواج.