في قصيدة الشاعر علي حسن الفواز (مراثي بيروت)، نفاجأ بالكثير من الصور الشعرية المتناثرة في زوايا قصيدته، ليس فقط بجماليتها البنائية، وإنما كذلك بجمالية ما تطرح، بحيث أنها الظاهرة البارزة لدى الفواز في قصيدته هذه وسواها من شعره إن الاشتغال في بنية القصيدة بات هاجسا يبحث عن بدائل إبداعية، وقد أخذت الصورة في الشعر الحديث دورا رئيسا وفعالا حتى أصبحت تكوّن أساس التركيب الشعري، فهي البديل الذي يلغي ابسط عناصر البلاغة من تشبيه أو استعارة بشكلها التقني، ولم تعد الدراسات البلاغية تعتني بالعناصر السابقة تقنيا، بل توسعت إلى دراسات بنيوية في كيفية بناء الصورة أسلوبيا
إن مهمة الشاعر هي البحث فيما وراء الأشياء، والبحث عن الجديد للجمع بين الإبداع والابتكار، هي فاجعة بيروت التي لاتشبهها فاجعة:
لا تشبه المدنَ المباحةَ للخطايا، إذ تقرأ القداسَ، والتعزيمَ،
والتأويلَ دون مواسمِ الخوف العتيقِ،
ترمي لهم حجرَ المروءةِ،
تستكينُ أنوثةً، تتلو لهم نصَ اعترافِ الصحوِ، والقلق الطليقِ.
تبكي الغيابَ،
رحيلَ من عبروا مثل الفراشاتِ الشغوفة بالحريقِ..
يشتغل الشاعر الفواز في قصيدته هذه على معالجة هموم وانشغالات انسانية أكثر مما توحي بكونها هموما عربية (انفجارات بيروت الأخيرة)، بل هو يتحدث عن تعرية الكون بعوامل التصدع والتفكك التي تضربه بعنصري الزمان والمكان، فيبدو العالم موحشا فارغا من مكوناته الإنسانية، إذ يشرع الشاعر بطرح أسئلته بوجه العزلة والظلام والخراب الكوني:
يا إلهي، هكذا أخبرني أولاد أحمد **،
احتاج الى تمرّدٍ للتحولِ، وأسئلةٍ للقلق،
ومغفرةٍ للأخطاء،
لا أريد أنْ اذهبَ وحيدةً للجحيم،
يخلق الشاعر علي حسن الفواز صورهُ الشعرية بذكاء فكري عالٍ، إذ تنعكس موروثاته الابتكارية وثقافاته المتسعة على شعره، لترسم صورا تميزه عن سواه من الشعراء وبخاصة تلك (المباشرة/غير المباشرة) في طرح آلية أسئلة جديدة كما في:
بيروت
بيروت
« امرأة تولد في تابوت»*
تُعلّق الأسماءَ والوجوهَ والحكايا،
تؤجّر التاريخَ للمغنّي، والمرفأَ للقراصنة،
والبيت للصوص.
وتقوم القصيدة على نسق كبير من الأسئلة الاعتيادية وغيرها مما لا يمكن طرحه إلى مجاز أو رمز نحو (والبيت للصوص) حيث لا يجوز أو يصعب طرح مثل هذا السؤال مالم يكن رمزاً بتعبير مجازي ينحرف فيه المعنى عن القول المقصود:
من أوهمَ القاتلَ بالصحوِ القديم؟
من علّقَ البارودَ والتيزابَ والنتراتَ والسي فور فوق الماء؟
من قايضَ المقهى بعاقرةِ الغيابِ؟
من؟ من؟ من؟ .............
وما يلفت انتباهنا أن الشاعر الفواز، يشتغل في قصيدته أولا: (على التمني»ماتتمناه بيروت» / النفي:
) لا أريد أنْ اذهبَ وحيدةً للجحيم،
فالنارُ يصنعُها الآخرون، الآخرون الجحيم كما قال سارتر،
لكني سأذهبُ وحيدةً للحبِ،
إذ اتوهجُ، وأشفُّ، وأسكرُ، واشتعلُ
دون نتراتِ الامنيوم.
يا إلهي
أنا مدينةٌ فينيقيةٌ قديمة، بادلها التجار والقراصنة بالبحر،
لكنها بادلتهم بالريح، والاغاني والفيروز والبياض..
وثانيا، إن التضاد بصيغه المتعددة يمثل أسلوبا يكسر رتابة النص وجموده بإثارة حساسية القارئ المتلقي ومفاجأته، بما هو غير متوقع من ألفاظ وعبارات وصور ومواقف، تتضاد فيما بينها، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه، ويحلق في فضاء جمالي خاص، ويحرضه على الحوار والتفاعل، وإعادة إنتاج المعنى، إذ ((ليس هناك نص أدبي لايخلق من حوله مجموعة من الفجوات والفراغات التي يجب على القارئ أن يملاها)).
كما أن التضاد من أكثر الأساليب قدرة على إقامة علاقات جدلية بين النص من جهة والقارئ من جهة أخرى :
يصحو التناقضُ عنده، إذ لا مجازَ يُدثّرُ الفكرةَ،
ولا البلاغةَ ترتدي ثوبَ الفقيه، ورِقّة الصوفي..
هي بعضُ اسئلةِ الموتِ السريع، موتِ القطا، والقبلةِ الاولى..
من أوهمَ القاتلَ بالصحوِ القديم؟
من علّقَ البارودَ والتيزابَ والنتراتَ والسي فور فوق الماء؟
لا يتوقف الشاعر علي حسن الفواز عن طرح العديد من الأسئلة في قصيدته هذه، وهي ليست أسئلة ليقال إن النص مملوء بالأسئلة، ولكنها أسئلة مساءلة، لاتقف عند حدود الطرح، ولكنها تسائل وتراقب وتحاكم :
هي بعضُ اسئلةِ الموتِ السريع، موتِ القطا، والقبلةِ الاولى..
من أوهمَ القاتلَ بالصحوِ القديم؟
من علّقَ البارودَ والتيزابَ والنتراتَ والسي فور فوق الماء؟
من قايضَ المقهى بعاقرةِ الغيابِ؟
من؟ من؟ من؟ .............
اسئلةٌ متروكةٌ مثلَ الفراغِ،
لها طعمُ الاكاذيب/ الوصايا والرمادُ،
تمحو الممراتِ الصغيرةَ، والاراجيلَ وضحكةَ الانثى،
وتمشي مثل مجنونٍ يدغدهُ العنادُ..
شهقتْ بليلِ النارِ حدَّ نزيفها،
وتوضأتْ بالجمرِ،
دون جراحها، قد تُستفّزُ وقد تُعادُ..
إن هذه القصيدة مليئة بالتضادات والمفارقات والأسئلة والجدليات، قصيدة مساءلة يطلقها الشاعر من كل مقطع أو جملة أو كلمة، ثورة شعرية خاصة تقوم في بنية النص أساسها التضاد من كونه يشكل عنصر المخالفة، وهذه ((المخالفة تغدو فاعلية أساسية يتلقاها القارئ عبر كسر السياق والخروج عليه)) والشاعر هنا مطالب بلغة مبتكرة، وهذا ليس معناه ابتكار دالات لغوية جديدة غير واردة في المعاجم، إلا أن الابتكار يكون في التشكيل وهو التركيب المميز للدلالات.
وختاما ان قصيدة (مراثي بيروت) للشاعر علي حسن الفواز هي من القصائد الذكية التي يتمتع شاعرها بمخيلة مبدعة وثقافة واسعة ووعي كبير، فقد نجح الشاعر الفواز في تأسيس نص شعري تقوم بنيته على التضاد وما يؤسسه من خلخلة وصراع ومفارقات داخل القصيدة وتطوير بنيتها وصورتها الشعرية، بكى وحكى لنا فجيعة بيروت. ونجح في ذلك.