خرج الحسين عليه السلام ليقول لا للطغاة، حمل اللغة والفكرة والموقف ليُجاهرَ بالمعنى، وليفتحَ أفقاً للحياة الرضيَّة، حيث يكون الدم عنواناً، والقول الحق يافطة، والرسالة منهجاً، والسمو والرفعة والتعالي موقفاً من "الحكم العضوض" الذي أراد الضلالة والخديعة والمكر..
خرج الحسين من المدينة ليدخل التاريخ، وليؤسس بشهادته خطاباً نقدياً للفكر، وجدلاً في الكلام وفي الرؤية، حيث تتسع الأسئلة، وحيث يتسع المعنى، وحيث تتحول الأرض الى بلاد للشهادة، وهذا ما جعل السفر الحسيني أكثر تعبيراً عن أسفار المجد التي ينهض بها الأبطال، بوصفهم شهوداً وشهداءً على الزمن والأرض وعلى خطايا الضالين.
كان الحسين "ع" قرآنياً وإنسانياً، محمدياً وعلوياً، وهذا ما جعل الكينونة تملك زخماً وجودياً، على المستوى الرسالي القيمي، وعلى المستوى النقدي، إذ كانت سيرته ونهضته وشهادته نقداً فاضحاً للطغيان والظلم، فضلاً عن كونه حضوراً لما يتطلبه المعنى من وضوحٍ وجهادٍ وسعةٍ، ومن عمق يستلهم دلالته العظيمة كقضية كبرى، وكنضال إنساني وثوري من أجل الحق والعدالة..
رفْضُ السلطةِ الغشوم هو خيارُ الإمامِ الحسين، هو موقفه، هو حبه ومسعاه، وبقدر ما كان الرفض عالي المقام، فإنَّ انتماءه كان يحمل بعداً أكثر سماحة، وأكثر تمثيلاً للأفكار التي جاءت بها الرسالة، والقيم التي جسدتها، في سيرة الرسول محمد "ص" التي كانت سيرة تأسيسيَّة للحرية والعدل، ولفكرة المدينة التي تجمع المتعدد، وتؤمّن للجميع أفقاً للتعايش والمشاركة، مثلما جسدتها سيرة الإمام علي بن ابي طالب "ع" بوصفها الأفق الثقافي والنضال للرسالة، إذ جسّد بمبادئ الحكمة والصبر والشجاعة تاريخاً لوحده، تاريخاً ظل عنواناً كبيراً وخالداً تستلهمه الأجيال والثقافات المتعددة، في علوم كلامها وفي مسارات انعزالها وتأويلها وعقلها، فضلاً عما جسدّه في ثقافة الحكم، فهو الخليفة العادل والثابت والمؤمن والشجاع والشهيد، وأحسب أنَّ هذه العناوين الكبرى هي المثال الذي حمله الإمام الحسين "ع" على عاتقه، والذي جعله جوهر أهدافه، ومسار نضاله وثورته وسيرته، مثلما جعله منصته العالية للتعبير عن رفض الخنوع والذلة، حيث قال عبارته الخالدة "هيهات منا الذلة" لتظل صوتاً عالياً عابراً للزمن، ماثلاً وشاخصاً للأجيال والشعوب والثوار وهم يخطون الخطى نحو حياة رافلة بالكرامة والعزة والكبرياء..
شجاعة الإمام الحسين هي شجاعة الموقف الذي حمله معه الاخوة والاخوات الأبناء والصحب، ليكونوا بهذه الشجاعة مثالاً جامعا للجلد والصبر، فلم يتخلّوا عن الإمام في الشدّة، ولم يركبوا الليل فرساً للهروب من الميدان، بل ظلوا بصبرهم وإيمانهم علامات للتضحية والشهادة التي نستعيد لياليها دائماً، والتي ننهل منها الدروس التي مابرحت تظل رمزا لخلود السفر الحسيني، ولقوة ماحمله من معانٍ كبيرة، ومن افكار تتجدد كل يوم، ليس بوصفها افكارا لحدث معين، او لتاريخ محدد، بل بما تحمله من دلالات اسهمت في صياغة الخطاب الثقافي، والموقف الثقافي من فكرة البطولة الاخلاقية، فالحسين ليس بطلا تراجيديا بالمعنى الشكسبيري، بل هو بطل تاريخي، بالمعنى الذي نقرأ من خلاله وعبره تحولات الزمن السياسي والزمن الاجتماعي، فضلا عن النفسي، والذي هو زمن الشخصية البطولية، ذات الحمولة الرمزية، والحمولة الواقعية، إذ لعب هذا التلازم وظيفة فاعلة في الكشف عن المضمر في التاريخ، والمضمر في الصراع السياسي، والذي كان الامام الحسين طرفه الفاعل، مقابل سلطة " الحكم العضوض" التي ظلت طوال اكثر تسعين سنة، وكأنها الحقل التجريبي لتضخم ظاهرة السلطة، ولغلو شخصيتها الدموية، ولعنف الخطاب السياسي الذي كان خطاب عنف وكراهية، واقصاء منهجي للجماعة الضد.
ان استعادة الليالي الحسينية تنطلق من ما تحمله تلك الليالي من غنى فكري، ومن موقف اخلاقي، ومن سيرة نقرأها وكأننا نقف أمام زمن مفتوح للقراءة والجدل، وللاسئلة التي حملها الامام الحسين منذ اكثر من الف واربعمائة سنة الى لحظتنا الحاضرة..