تمرُّ السنون وكل عام نحيي أيام عاشوراء منذ طفولتنا حتى تعلمنا من هذه المناسبة أنه محطة في حياة الإنسان تبث في روحه مشاعر الالتزام بطريق الإسلام الصحيح الذي جاء به الرسول الأعظم (ص) إذا ما حاولت مسارب الشيطان وقوى الانحراف النيل من ثبات النفس المؤمنة وصلابتها على طريق الحق.
وهنا نكتشف أنَّ ذكرى مقتل الإمام الحسين (ع) تبث فينا روح صرخة الحقّ والحريّة كلما تذكرنا تضحيته، فمدرسة الحسين شاملة لمعاني التضحية والفداء، وهي حركة إسلاميّة ناصعة انطلقت على أساس الحفاظ على سنة الله ورسوله (ص)، خطاً قوياً لكلّ الأجيال بوجه الظلم والطغيان، انتصاراً للحق والعدالة ودحضاً للباطل. ومن هنا فنحن ننظر للإمام الحسين (ع) مجسداً لخط جده النبي (ص) وأبيه علي (ع) ومنهجيهما في الطريق الى الله.
تعلمنا من الإمام الحسين (ع) عدم الرضوخ إلى الذل والمهانة، فهو القائل: «هيهات منا الذلة». وقد نادى في كربلاء بالحرية والكرامة قائلاً لجيش يزيد: «إنْ لم يكن لكم دين، فكونوا أحراراً في دنياكم». ومضى الإمام (ع) في درس ليعلمنا بأنَّ التضحية بالنفس لا بدَّ منها لتحقيق رضا الله عبر نصرة الحق فيقول: «ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والباطل لا يُتناهى عنه؟!».
ومن مدرسة الحسين تعلمنا قيمة العودة لجادة الحق والرجوع الى الله حتى وإنْ بلغنا آخر نقطة في رمق الحياة، فعندما جاءه قائد جيش يزيد «الحر بن يزيد الرياحي» يطلب التوبة، قائلاً سيدي هل من توبة؟ رد الإمام عليه بما معناه أنَّ باب التوبة مفتوح في هذه
الساعة.
وهكذا كانت صحبة البعض له عليه السلام دافعاً لوفائهم له، وذلك من وفائه لدينه ورسالة جده المصطفى (ص) فقد استشهد معه جون وهو خادم الصحابي أبي ذر الغفاري (رض) لأنه لازمه طيلة حياته فلم يفارقه في شهادته.
وكذلك وفاء أخيه العباس (ع) وتضحيته التي علمتنا درس الإيثار والتضحية والثبات على المبدأ. ومن المهم الاطلاع على نص للإمام الحسين (ع) لمعرفة أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منهجه وثورته، فقال في رسالته الوداعيَّة لأخيه محمد بن الحنفية (رض): «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (ص)، أأمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، أسير بسيرة جدي (ص) وأبي علي (ع)...» الى آخر الرسالة. ولهذا تراه أخذ معه أسرته في طريق الفناء في سبيل الله، وهو ما دفع أخته السيدة زينب (ع) لمرافقته في طريق فضح خطط يزيد، وتفنيد مزاعمه، وتوعية أبناء الأمة من الضلال الذي تسير عليه البلاد تحت حكمه الطاغي.
إنَّ ثورة الإمام (ع) لا يمكن ربطها بسياقاتها التاريخيَّة حصراً، فهي ثورة إصلاحية حية تفجرت لتصحح مسار الانحراف في الأمة الإسلاميَّة، واستمر صداها يتخطى القرون عابراً الآفاق نحو المستقبل. كما لا يمكن ربطها بالإسلام حصراً، مثلما لا يمكن فك ارتباطها عنه وهي جاءت حاملة لمبادئه، باذلة التضحيات في سبيله. فهي ثورة إنسانية لكل أبناء البشرية، منبثقة عن الإسلام الذي هو دين الإنسانية المنزل من رب العالمين جميعاً، وإليهم جميعاً، في كل زمان ومكان.
فهذا الإصلاح لا يعني ارتباطه بالماضي حصراً، وإنْ كانت الطف قد حدثت في الماضي فعلاً، بل إنها حركة إصلاحيَّة تستمد من الأزلية استمرارها، مثلما هي أزلية وجود الظلم والفساد. كما أنَّ ارتباط عاشوراء بكربلاء لا يعني حصر المناسبة في مكان وإنما كانت هذه البقعة مهداً لتلك الثورة، ومركز انبثاقها، لكي يمتد شعاعها من حدود الطف إلى سائر أرجاء العالم، ومع كل إنسان يشعر بإنسانيته ويعتز بها، ويريد أنْ يكون سيداً صالحاً لا عبداً
للفاسد. فبعد أنْ كانت صرخة الإمام (ع) مطالباً ضمير الإنسان بالصحوة عبر نداء «هل من ناصر ينصرنا»، جاء هتاف المؤمنين الذين يستشعرون العزة، من بعده: (لَبَّيكَ يا حُسَين) وهو شعار الثورة الهادر الذي يمثل مصداق التمسك بطريقه (ع). فلم ينتصر الظالمون بقطع رأسه الشريف في عاشر محرم سنة 61 هجرية، مع ما في هذا الفعل اللئيم من حقد وثأر حملته نفوس رموز الحكم الجاهلي، فقد صدم فعلهم الواقع وهزّت قواعده، لكي تركِز الخط الأصيل الذي يحفظ الحياة الإسلاميّة، بل من هناك ابتدأت حركة التصحيح لمسار الأمة وتأكيد العدل في داخلها.
إنَّ واقعة الطف المؤلمة، غيّرت مجرى تاريخ الشعوب الإسلامية، وفتحت لها آفاقاً مشرقة للتمرّد على
الظلم والطغيان، وألهبت هذه الملحمة الخالدة عواطف الأحرار، ودفعتهم إلى النضال المسلّح في سبيل تحرير المجتمع من ظلم العبودية والذلّ، وإنقاذه من الحكم الطاغي عندما جرّدت
الحكم الأموي من الشرعية.
لقد انتصرت أهداف الإمام الحسين (ع) في ثورته الخالدة، وانتصرت مبادئه العظيمة، وظلّ مثلاً خالداً للكفاح المقدّس يطارد الظالمين والطغاة في كل عصر وزمان، ويمدّ الثوار بروح التضحية والفداء.
فالسلام عليك يا مولاي يا أباعبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك.