السفير مارتن هوث: نريد العراق بلداً مزدهراً محصناً من جميع الصراعات

العراق 2020/09/02
...

  حاوره: حازم محمد حبيب

تمتد الجذور التاريخية لعلاقات العراق بالاتحاد الأوروبي في العصر الحديث إلى أول أشكال ظهور هذا الكيان الفريد من نوعه في العالم سنة 1958، ورغم انقطاع العلاقات بين الطرفين عقب غزو نظام صدام لدولة الكويت في 1991؛ إلا أنها عادت وبقوة لرسم ملامح جديدة في عراق ما بعد 2003، حيث يأتي الاتحاد الأوروبي في المرتبة الثالثة من حيث الدعم للعراق، ولئن كانت لدى بعض القوى الدولية الكبرى في العالم والمنطقة مصالح في الواقع العراقي تميل فيها الكفة لغير مصالح شعبه؛ فإن الاتحاد الأوروبي يراهن على مصالح مشتركة تنسجم وفلسفة المبادئ التي قام وتأسس عليها من كون الإنسان هو الثروة الأكبر للبلدان وإن مصطلحات مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة العدالة والقانون؛ لابد من دعمها في الديمقراطية حديثة الولادة في العراق، رغم التعقيدات الجيوسياسية المرافقة لهذا الطريق بالغ الصعوبة.
إن أساس العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والعراق يستند الى حقيقة ان الاتحاد الأوروبي والعراق، في عالم اليوم المترابط أو «القرية الصغيرة» وفق المصطلح المعروف، قد أصبحا جارين،فخلال العشرين سنة الماضية أثرت الاحداث التي تجري في المنطقة التي تضم العراق، بشكل يكاد يكون مباشرا في أوروبا. ونظرا لهذا التقارب –والذي يميز الأوروبيين عن شركاء مهمين آخرين للعراق– أنهم لا يمكنهم غض النظر عن هذا البلد، ولهذا فقد دعمت أوروبا بفعالية رغبة العراق في تحقيق السلام الدائم والازدهار والتقدم،ومنذ تأسيس بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق في عام 2006 كانت مشاركات أوروبا في العراق موجهة حصريا لغرض انجاز تلك الأهداف.
اليوم، يُعد الاتحاد الأوروبي ثالث أكبر مانح للمساعدات الى العراق، وإذا جمعنا المساعدات المشتركة المقدمة من الاتحاد الأوروبي وجميع الدول الأعضاء فيه تصبح أوروبا في الواقع أكبر مانح على الاطلاق، وبحسب السفير مارتن هوث سفير الاتحاد الأوروبي لدى العراق لدى حواره مع «الصباح»، فإن «التعاون مع العراق يشمل جميع المجالات، من التنمية الى الشؤون الإنسانية وحقوق الانسان، إضافة الى التعاون الأمني والسياسي، كما إن الاتحاد الأوروبي عضو غير عسكري في التحالف الدولي لمحاربة داعش، وهذا كله يعكس جدول أعمالنا المشترك».  
 
رغبة أوروبية
على الصعيد السياسي، تؤكد أوروبا رغبتها بأن ترى العراق محصنا من الصراعات الإقليمية، كما تؤكد أنها تدعم دعما كاملًا رؤية رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لعراقٍ مزدهر ذي علاقاتٍ جيدة ومتوازنة مع جميع جيرانه ويقف على مسافة واحدة منهم،معربة عن سعادتها برؤية ملف الإصلاح الاقتصادي وهو يجري التعامل معه بجدية رغم المشكلات والتحديات العديدة.  
على صعيد زيارات المسؤولين الأوروبيين للعراق بعد 2003، كانت المبادرة حاضرة من الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في 2009 كأول رئيس أوروبي يزور العراق بعد التغيير، وقد قال يومها في مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي: «أزور العراق اليوم كأول رئيس أوروبي يزوره منذ سنوات، وأريد أن اشجع التزامات أوروبا نحو العراق ومن مصلحة الأوروبيين أن يحصل العراق على سيادته»، ثم تتالت الزيارات الأوروبية الرفيعة المستوى للعراق خلال السنوات الماضية، حيث زارت فيديريكا موغيريني، الممثل السامي السابق لشؤون السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي، بغداد في 2019، ولكن وباء كوفيد- 19 أدى نوعًا ما لإبطاء مسار المشاركات الثنائية.
 
برامج واعدة
ينهمك الاتحاد الأوروبي بشدة في التعاون مع العراق في 69 برنامجا حاليا بمبلغ كلي يصل الى 617 مليون يورو، ويؤكد السفير هارث ان «هذه البرامج تتحرك وفق مصالحنا الرئيسة المشتركة للحفاظ على الاستقرار وإعادة بناء العقد الاجتماعي بين المواطن والمؤسسات، من أجل تحقيق هذه الأهداف الستراتيجية»، ويركز التعاون الإنمائي الأوروبي مع العراق على ضمان التحسينات المستدامة في الحوكمة الديمقراطية وبناء المؤسسات، والتعافي من «داعش» وتثمين رأس المال البشري وتنمية الاقتصاد وإيجاد فرص العمل، ومن المظاهر المهمة الأخرى لمشاركة الاتحاد الأوروبي هو إرسال بعثة استشارية مدنية كبيرة EUAM الى العراق للمساعدة في إصلاح القطاع الأمني.   
يرى الاتحاد الأوروبي ان نجاح الأنشطة المشتركة يعتمد على “القيادة العراقية القوية” وأخذها لزمام التنمية والإصلاح في البلاد، ولا يمكن لأوروبا إلا أن تقدم المساعدة للعراق لكي يستخدم موارده بشكل يحقق فيه مصلحة شعبه، ولهذا فإن الجهود التعاونية تستند على الحوار المكثف مع جميع الشركاء العراقيين في الحكومة والمجتمع المدني.  
 
زمن «كورونا»
في هذه الأوقات الصعبة جراء وباء «كوفيد 19- كورونا» وأثره في الناس والمجتمع والاقتصاد، يدعو الاتحاد الأوروبي إلى أهمية العمل نحو النمو الاقتصادي المستدام الشامل المُراعي للبيئة والقائم على المعرفة في العراق،وتقوم برامج الاتحاد التعاونية على دعم وتعزيز رسم السياسات والحوكمة الاقتصادية، ويشمل ذلك التركيز على بناء المؤسسات والقدرات في قطاعات رئيسة وكذلك تنمية القطاع الخاص، وفي الوقت نفسه يركز الأوروبيون على ضرورة إيجاد فرص عملٍ جيدة ولائقة للشباب العراقي من خلال التعاون في مجال التعليم وفي التدريب والتعليم التقني والمهني وإصلاح قطاع العمل مع التركيز على دعم فرص العمل المباشرة في مجالاتٍ مثل البناء والزراعة والسياحة، ويقول السفير هارث: «نحن ملتزمون بالاستمرار في مشاركاتنا القوية في العراق، ونعمل حالياعلى تدارس تعاوننا مع العراق ما بعد 2020،وأنا أدعو القراء من خلال (الصباح) لزيارة موقعنا الالكتروني وعلى وجه الخصوص صفحتنا على فيسبوك للاطلاع على تفاصيل وقصصٍ من مشاريعنا».    
لا تنحصر الرؤية الأوروبية بشأن وباء «كوفيد 19 - كورونا» في تقديم المساعدات العاجلة للعراق، اذ أن الاستجابة الأوروبية توضع في نطاق أوسع يقوم على حاجة العراق الآن «لاستعادة الثقة بين الشعب والمؤسسات وذلك عن طريق انشاء منظومة حوكمة شاملة وخاضعة للمساءلة»، وبينما يزيد وباء كوفيد- 19 وانخفاض أسعار النفط من التحديات الكبيرة، فان توفير الخدمات الرئيسة كالتعليم والصحة وأيضا فرص العمل والمعيشة -لا سيما للشباب العراقي والفئات السكانية الضعيفة- هي أهم الأولويات، فليس وباء «كوفيد 19- كورونا» وفق الرؤية الأوروبية الا واحدا من عدة تحديات مُركّبة، والحل لا يتوقف عند توفير الكمامات وأجهزة التنفس. 
قام الاتحاد الأوروبي بتوفير ما مجموعه 159 مليون يورو لدعم استجابة السلطات العراقية لوباء كوفيد- 19 على نطاق أوسع، وبمشاركة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وصل هذا الرقم الى 200 مليون يورو، ويهدف الدعم الأوروبي لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة ويشمل هذا الرعاية الصحية والمياه والصرف الصحي إضافة الى الوقاية، مع إعطاء الاولوية للفئات السكانية الأكثر ضعفا كالنازحين، ويؤكد السفير هارث ان «التصدي للأثر الاجتماعي-الاقتصادي للأزمة في العراق يحتل موقعا مركزيا في الدعم المقدم من الاتحاد الأوروبي»، ويشمل هذا الدعم برامج لإيجاد فرص العمل -لا سيما للشباب العراقي- وتنمية مشاريع الاعمال الصغيرة والمتوسطة والقطاع الخاص، وعلى وجه الخصوص في قطاع الاعمال التجارية والزراعية، كما يجري العمل أيضا على تمديد البرامج الي توفر فرص العمل في إعادة إعمار المراكز الحضرية وتساعد خريجي الجامعات على الدخول في مجال العمل.    
 
غسيل الأموال
رغم جهود العراق الجادة في مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، إلا أنه مازال ضمن القائمة الأوروبية لـ «البلدان شديدة الخطورة» في هذا المجال، ويشاطر الاتحاد الأوروبي الحكومة العراقية رغبتها في شطب العراق من القائمة بأسرع وقت ممكن، وتعد مكافحة غسيل الأموال أولوية كبرى للاتحاد الأوروبي وجميع الدول الأعضاء فيه، ويبين السفير هارث أنه «في ما يتعلق بالإجراءات، فان البعثة تعمل بصفتها محاورا بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل والحكومة العراقية، لغرض مكافحة غسيل الأموال ومحاربة تمويل الإرهاب، ويجب تلبية متطلبات فنية معينة تنطبق على البلدان في جميع انحاء العالم من أجل السماح بالتعاملات المالية من والى الدول الأعضاء في الاتحاد  من دون اتخاذ إجراءات احترازية إضافية».
تهدف هذه المعايير الى حماية السوق المالية الأوروبية عن طريق تقليص الآثار المحتملة للنشاط الاقتصادي الاجرامي، ويعمل الاتحاد الأوروبي حاليا على المستوى الفني مع السلطات العراقية المعنية، ومن أبرزها البنك المركزي العراقي، لضمان استيفاء هذه المعايير والنظر في إمكانية وكيفية تقديم المساعدة لشطب العراق من القائمة.  
 
المناطق المحررة
منذ البداية، كان للاتحاد الأوروبي استثمار كبير في إعادة اعمار المناطق المحررة، اذ قدم دعماً مشتركاً مع منظمة يونسكو، لإعادة الحياة الى مدينة الموصل القديمة بوصفها رمزا حيا للفسيفساء الغنية والمتنوعة للهويات في العراق، اذ ان التنوع والارث الثقافيين يمثلان جزءا لا يتجزأ من قيم الاتحاد الأوروبي، فهما أساسيان لهوية بلدٍ تعددي ومتعدد الثقافات مثل العراق، كذلك هما يحملان إمكانيات هائلة لتعزيز الاقتصاد وتوطيد التماسك الاجتماعي، ويضاف الى ذلك إن أنشطة إعادة الاعمار الحضرية هذه تعمل على تحفيز إيجاد فرص العمل وتنمية المهارات. 
كما يدعم الاتحاد الأوروبي أيضا؛ المجتمعات الريفية في المناطق المحررة، فقد تركت الكارثة التي أحدثها «داعش» على ما كان يعرف بسلة الخبز العراقية - سهول نينوى غرب الموصل -  أثرا مدمرا في البنى التحتية للمياه والزراعة، ويكشف السفير هارث عن عمل الاتحاد الأوروبي سويةً مع منظمة التغذية والزراعة (فاو) لمساعدة ما يقارب 10,000 أسرة زراعية ضعيفة ليتمكنوا من استعادة سبل العيش الزراعية، وبالإضافة لهذا، ينفذ الاتحاد الأوروبي عدة مشاريع أخرى في المناطق المحررة في مجالات التعليم والحوار السياسي والحوكمة وإصلاح الطاقة.  
 
شريك طويل الأمد
يصف الاتحاد الأوروبي نفسه بـال «شريك طويل الأمد» ويُعوّل عليه في العراق، وهو سيكون ملتزماً بدعم أولويات العراق في التنمية والتعاون الإقليمي لما فيه مصلحة شعب العراق، وترى أوروبا ان الحوكمة الرشيدة والتنوع الاقتصادي الصحيح والتنمية الدائمة للقطاع الخاص هي المجالات الرئيسة لمكافحة هشاشة المنظومة السوسيو-اقتصادية الموجودة في العراق والتي تتعرض لتحديات من ازماتٍ حالية متعددة،إلا أن التظاهرات التي عمت البلاد منذ تشرين الأول 2019، كشفت حاجة العراق لإصلاحات هيكلية جادة لتجاوز الاقتصاد المعتمد على النفط وغير المستدام ماليا والذي لا يزال يعاني من عدم التنوع، وعليه أن يكافح الفساد المتفشي وشح فرص العمل، وأن يقلص العدد الفائض لموظفي القطاع العام العاجز عن أداء وظيفته وأن يتصدى للاحتياجات الهائلة في اعادة الاعمار. 
ويقول السفير هارث: «إننا نتفهم تماما حاجة الحكومة العراقية لاتخاذ اجراءٍ حاسم والمباشرة بالإصلاحات الاقتصادية التي طال انتظارها من أجل ضمان الاستقرار الاقتصادي الكلي وتنويع الاقتصاد وتمكين القطاع الخاص والاستثمار،وان دعم مثل هذه الإصلاحات في القطاعين الاقتصادي والمالي، وبضمنها إدارة المالية العامة، هو من النقاط المحورية في أنشطة الحوكمة للاتحاد الأوروبي».  
وفي ما يتعلق بالقطاع الأمني بالتحديد، تقوم البعثة الاستشارية للاتحاد الأوروبي في العراق EUAM والتي تضم حوالي 100 عضو من الشرطة المدنية بتقديم الدعم الفعال لإصلاح القطاع الأمني في العراق. 
تؤسس اتفاقية الشراكة والتعاون التي دخلت حيز التنفيذ في 2018 للعلاقات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي والعراق، وتحدد مجالات أساسية في المصلحة المشتركة، فهي تنص على إقامة عدة اجتماعات، بدءا بما أُطلق عليه تسمية اللجان الفرعية، حول هذه المجالات الأساسية، وكشف سفير الاتحاد الأوروبي في حديثه لـ “الصباح”، عن ان أول اجتماع للجنة فرعية سيعقد في 8 أيلول الحالي بين وزارة الخارجية العراقية والدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية، وسيكون موضوع هذا الاجتماع: الديمقراطية وحقوق الانسان، ويضيف إنه “نظرا للأحداث الجارية، فهو موضوع ذو صلة وفي الوقت المناسب”، وسيلي ذلك المزيد من الاجتماعات حول التجارة والاقتصاد والطاقة والقضايا المتعلقة بها.