رواية {ترتر}.. التاريخ بعيداً عن المُباشرة

ثقافة 2019/01/08
...

حازم مبيضين
أوّل ما يلاحظه القارئ قبل دخوله عوالم الرواية المشكلة على مائتين وثمانٍ وسبعين صفحة ومقسّمة إلى أحد عشر فصلاً. 
هو عنوانها "ترتر" وهي تعني "رقائق معدنيّة أو بلاستيكيّة مستديرة لامعة صغيرة ذات ألوان متعدّدة توشّى بها ملابس 
النساء. 
وعند الدخول إليها نكتشف أن الراوي اعتمد ثنائية العنوان ليعالج عدة ثنائيّات أبرزها الحبّ والحرب والتقاليد والحداثة، والصراع بين الشّرق والغرب. 
واعتنى نزار عبد الستار في وصف بطلة الرواية آينور، الريادية، التي تتمتّع بالسلطة والذكاء والقوة إلى جانب تمتعها بالرقة والطفولة والخجل، فقد نهضت بالعمل الروائي لكونها المحرك لعناصره، ومن بين الشخصيات التي لعبت دوراً مؤثّراً في حياة هذه الشخصية المحورية "رودولف"، مصمم الأزياء الذي اختفى بظروف غامضة، لم نعرف إن كان قد انتحر في السجن أو قُتِلَ. 
أحبته آينور وقد بقي ظلّه يرافقُها طيلة الرواية، كانت شطحات حب آينور وعشقها لرودولف الذي غاب تضيعها في مغامرات مع خصوم وعلاقات حميمة مع أنصار انتهت بمغادرتها الموصل بعدما تحطم معمل النسيج وتوقف عمل بناء المستشفى وانتهت أحلام الحليفين التركي والألماني بانشاء سكة حديد بغداد 
برلين. 
ومن الشخصيات الثانوية التي أثّرت في تطور الأحداث، الطبيب جرجس الذي درس الطب على أيدي الآباء اليسوعيين في بيروت، والسير هنري الذي لعب دوراً معاكساً في مسيرة آينور والشيخ الحكيم سعد الدين صاحب "كتاب الشطرنج".  
غاب الروائي وهو الراوي عن المشاركة في الأحداث لكنه ظل الحاضر العارف بكلّ شيء، يختار المادة الروائية ويؤديها ويحرك الشخصيات، غير أنه وهو يمسك مختلف الخيوط، يتيح للشخصيات أن تحضر، فنسمع أصواتها إما مختلطة بصوته أو منفردة بذاتها ولو بشكلٍ قصير، وتبقى في حالاتها جميعاً مشدودةً إلى نسيجها. لقد كتب نزار كل ذلك بلغةٍ شاعريّة، لم تغفل عن تسريب الايديولوجيا عبر قنوات الوظيفة
الجمالية.
وإذ تقدم الرواية عوالم الموصل إبّان عيشها صراعاً بين عدة دول فإنها لاتنتمي للتاريخ فحسب إذ تُعنى بالحب والموسيقى والعمارة والصراع الحضاري بين الماضي المندثر والحاضر بما فيه من صراعات دول ومنافسات رجال حول "آينور" المتحدرة من أب ألماني وأم تركية. 
كلفها السلطان العثماني عبد الحميد بفتح معمل حديث للمنسوجات وإنشاء مستشفى حديث، وجمعيات علمية وتفاصيل أخرى في الموصل مدعومة ضد الانجليز والرجعية المحلية بالمخابرات التركية وقد منحها السلطان ومعه امبراطور المانيا السلطة والمال تمهيداً لمد جزء من سكة حديد بغداد – برلين الذي عارضته بريطانيا. 
ولم تكتف الرواية بوصف موجز لما كانت عليه أحوال ذلك الزمن. فالأشياء والأسماء كثيرة أيضا، يبدو ذلك واضحاً في وصف المواكب والقصور، والأزياء وأقمشتها وذلك لتأكيد تمكن الرواية من الحضور في ذلك الزمن وإلمامها بما يتعدّى صراعاته
وأحداثه. 
وهنا يتبدى الجهد الهائل للراوي في إعادة بناء الموصل على نحو ما كانته في ذلك الزمن معتمدا على معرفته بتاريخها ممزوجا بمخيّلته. 
وهذا ما يفسر ازدحام الرواية وفيها يعتمد الراوي امرأة "غريبة" ليعكس الصورة السلبية للمرأة العراقية حيث تستأثر اينور بصفحات الرواية ضمن متاهات التاريخ والحياكة النسيجية، والموضة بمقاربات نفذها بأريحية ذاتية نابعة من حب الروائي للشخصية الاوروبية، وللحضارة التي انجبت
اينور.
وإذا كانت الرواية سعت لتوثيق مرحلة سياسة مرّ بها العراق، فان الروائي ظل يبحث عن يقين إنساني، ليضيفه إلى سجل التاريخي والجمالي، جرّب الرموز وعاد للأساطير مستعيناً بتقنيات الكتابة الحديثة.
في ظل مناخ اجتماعي لايعرف السكون، تسوده عقلية تتعارض مع مشاريع أينور الإنسانية، ومغامراتها التي تمضي بها نحو النهاية المحتومة، وفي حين كان رجال الدين يسكتون عن نهب خزينة الولاية، ويغضبون لبيع ملابس داخلية شفافة !
تُهاجم مؤسسات آينور وتُحرق الأسواق، وتهدد حياتها مع تصاعد هجمة معاداة التطور، هربت أينور وهي حزينة تتمنى أن تنثر القروش التي تملكها على الأرض عند باب الجسر ليلتقطها كل عابر، فيخاطبها السلطان بعد عودتها إلى اسطنبول "لقد أثبت أنك أشجع من جيشي
السادس" . 
وبعد فإن الروائي نزار عبد الستار نجح في روايته بإثارة أسئلة تَمَسُّ الكيان الإنساني. فالدعوة موجّهة إلى "الشعب"  يدعوه إلى النهوض والتحرّر،ليثبت ذاته ويعيش بكرامة،على أمل الوصول إلى مستقبل أفضل.