الثقافة التبجيليَّة!

الصفحة الاخيرة 2020/09/13
...

 جواد علي كسّار
الثقافة التبجيلية تقع في مقابل الثقافة التبخيسية، وسأبدأ بمثال يدلل على المسافة بين الاثنين، في سنة 1962م أطلق أستاذ الفلسفة والمنطق ياسين خليل ومن بغداد، مشروع رؤية في اللغة بشقّيها الرئيسين اللسانيات والدلالة، استناداً إلى العلاقة بين المنطق واللغة، وقد أعقبه بثلاث سنوات عالم اللغة الأميركي نعوم تشومسكي بإعلان نظريته عن النحو التركيبي، واليوم لا يكاد أحد يذكر منجز ياسين خليل ونظريته عن اللغة، في مقابل التبجيل المستمر بنظرية تشومسكي، بل الأسوأ من ذلك وما يؤذي أكثر أن لا أحد يعرف شيئاً ذا بال عن ياسين الخليل نفسه، الذي غادرنا مبكراً عام 1986م عن اثنين وخمسين عاماً فقط!
إذا أخذنا مؤشراً آخر لهذه الحالة، وليكن من عالم الشعر والأدب، فلنا أن نلحظ التبجيل الذي أحاط أحمد شوقي ونعته بأمير الشعراء، في مقابل محمد مهدي الجواهري، ولا مقارنة بين الاثنين.
وبين الفلسفة والشعر وما يقع بينهما من علوم ومعارف، تنفتح الشهية لمقارنات سخية بين طابع التبجيل في ثقافة الآخرين، وطابع التبخيس في ثقافتنا.  يصح ذلك على كثيرين كعلي الوردي مقابل سعد الدين إبراهيم وحليم بركات في علم الاجتماع؛ وطه حسين ومصطفى جواد في المنجز اللغوي؛ وآخرين كُثر.
بصراحة، يعيش المصريون من بين الشعوب العربية الثقافة التبجيلية بأعلى مقاساتها، وينغمس الإيرانيون من بين الشعوب الإسلامية بأرفع حالاتها، فإذا كنت مصرياً أو إيرانياً، فذلك يعني أن تملك من خلال الانتماء إلى هذه الثقافة رصيداً مسبقاً، دخل في حسابك مقدّماً، وعندما يأتي إبداعك الخاص في أيّ حقل من الحقول، يكبر حجم هذا الإبداع، من خلال إضافة إبداعك إلى الرصيد التبجيلي.
الإعلامي العراقي على سبيل المثال يشرع من الصفر، وعليه أن يعتمد على جهده في بناء نفسه وتكوين مكانته معاً، في بيئة غير مشجّعة غالباً، عادة ما تميل إلى التبخيس، أما الإعلامي في مصر فلو حقّق منجزاً بقدر 30 ٪، فإن الطابـــع التبجيلي لثقافته المجتمعية، يرفع هذه النسبة إلى 80 ٪، حيث يأخذ الخمسين بالمئة من رصيده المسبق، الناشئ عن انتمائه للثقافة التبجيلية.
لقد لاحظتُ ذلك بالمعايشة والوجدان ولمسته مباشرة في أمثلة لا تعدّ ولا تحصى، وبمرافق الحياة كافة.
المرتكز الذي تقوم عليه النزعة التبخيسية للذات ومنجزها الفردي والاجتماعي في الثقافة الاجتماعية العراقية، ليست حالة نفسية أو محض مزاجية طارئة كما تميل لذلك بعض التحليلات السهلة للحالة، كما لا يمكن تفسيرها على ضوء مركبات أحادية بسيطة، بل هي حالة مركبة تلتقي فيها عوامل الواقع برواسب التأريخ، والجوانب النفسية بالاجتماعية، والأخلاقية بالتربوية، دون أن ننسى السياسة والبعد الاقتصادي في تكوينها وديمومتها.
هي حالة جامعة تقع بتوصيف الإمام أمير المؤمنين، بين الإدبار والإقبال، وهو قوله عليه السلام: "إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه"!