بعيداً عن التحليل السياسي، تداعت إلى ذهني من أزمة السودان الحاليَّة مجموعة من الخواطر والانطباعات، أبرزها:
1ـ عاد إلى ذاكرتي اسم المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد (ت: 2004م) الذي تعرّفتُ إليه أوّل الثمانينيات من القرن الماضي بداية خروجي من العراق، عبر كتابه المهم (العالمية الإسلامية الثانية) الذي ناقش فيه على نحوٍ اجتهادي معمّق جدلية العلاقة بين الغيب والإنسان والطبيعة. ثمّ توطدت العلاقة الفكرية معه أكثر، مع كتابه الضخم الفخم: (السودان: المأزق التأريخي وآفاق المستقبل) هذا الكتاب الذي قرأته بأناة ودقة، وتمنيتُ لنفسي (أو لغيري) لو نكتب مثله عن العراق، وقد حدّثتُ أكثر من باحث من دائرة أصدقائنا بهذه الأمنية، التي لا تزال ذات جدوى حتى هذه اللحظة.
كانت آخر محطات علاقتي الفكرية مع الراحل حاج حمد، هو كتابه الذي يعجبني كثيراً عكس كتابيه السابقَين؛ أقصد به: (منهجية القرآن المعرفية: أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية).
2ـ عندما نذكر السودان لا بدّ أنْ يتداعى إلى أذهاننا اسم حسن الترابي (ت: 2016م). تتأكد أهمية الترابي من زوايا عدّة، أبرزها التصحيح الفكري الذي مارسه مع راشد الغنوشي، في منهج "الاخوان المسلمين" إلى درجة اتهامه بالانشقاق، وتالياً بالانقلاب على الحركة الأمّ. ثمّ الإصلاح المنهجي الذي أدخله في التعامل مع الأنظمة الحاكمة حين استبدل مبدأ «التغييرية الانقلابية» وقلبها إلى «إصلاحية سياسية» ما سمح له بممارسة العمل السياسي مع الأنظمة، من دون أنْ يقع بأزمة الشرعية.
3ـ من التداعيات الأُخرى التي لا مفرّ من الوقوف عندها، هي ظاهرة المشير عبد الرحمن سوار الذهب (ت: 2018م). فهذا العسكري تسلّم السلطة باسم الجيش، عندما أسقطت الانتفاضة السودانية حكم الجنرال جعفر النميري عام 1985م، ووعد بتسليم الحكم إلى المدنيين سلمياً بعد سنة، وقد كتبتُ حينها أُشكك بوعوده، وأنه لم يسلّم السلطة أبداً، إلا بانقلاب أو انتفاضة جديدة، على ما هو مألوف المذهب السياسي في العالم العربي، لكنه فعلها وسلّم السلطة بالموعد المحدّد، وسط دهشة الحكام العرب وخلافاً لثقافة العسكرتارية العربية، بل زاد على ذلك أنه اعتزل الجيش والحياة السياسية، ولم يمارس أيّ دور من تحت الطاولة أو من خلف الستار، فاستحقّ بجدارة وصف: سوار الذهب، رجل في صدق وعده من ذهب!
4ـ كان يُفترض أن يكون الجنرال «البشير» الأول في حركة تداعي أنظمة سايكس ـ بيكو، فأصبح الأخير في حلقة التغيير.
ويعلمنا منطق السلطة، أن «البشير» رغم النذير، لن يستسلم بسهولة لفعل التغيير، ولن يسلّم السلطة باليسير، ومن ثمّ لن يُعيد لذاكرتنا أنموذج الراحل «المشير»!