العالمُ الافتراضيُّ وتسويقُ الوهم
ثقافة
2019/01/10
+A
-A
محمّد صابر عبيد
وَضَعَ العالمُ الافتراضيُّ الذي حلَّ بيننا وفينا العالمَ كلَّه على كفِّ عفريتٍ يصولُ ويجولُ بحريّةٍ ورحابةٍ لا حدودَ لها، هذا العفريتُ المستمتعُ بتحريكِ كلّ شيءٍ في هذا الكونِ على باطنِ كفِّهِ، والمهيمنُ على مقدّراتِ البشرِ ممّن سقطوا في بئرِ الوهمِ الذي لا قرارَ له، هو اللاعبُ الأوحدُ في هذا المضمارِ الذي لا مضمارَ غيره، عالمٌ من وهمٍ غزيرٍ يستقطبُ الأفرادَ والجماعاتِ ويقودُهم إلى حيثُ يريدُ وكأنّهم في حالة تنويمٍ مغناطيسيٍّ بلا وعيٍ ولا رأيٍ ولا خيارٍ، عالمٌ يصادرُ بشراسةٍ منقطعةِ النظيرِ ما عداه ويسخّر ما هو متاح وغير متاح لخدمة نظامِهِ الكونيِّ الجديدِ على نحوِ لا يسمحُ تقريباً بالحوارِ أو الاختيارِ أو النظرِ.يبرزُ هذا العفريتُ في مظاهرَ كثيرةٍ لا حصرَ لها وبحسب حاجةِ المَهمّةِ التي يضطلع بها في كلّ مناسبةٍ من المناسباتِ، وقد تسلّحَ بما يحتاجُ من الأسلحةِ التي ترفدُهُ بمزيدٍ من القوّة والجبروتِ والاندفاعِ نحو تحقيق أهدافِهِ بلا حواجز، فلديه المساحة الكافية للحركةِ والفعلِ والإنجازِ من دون عواقبَ مُتوقّعةٍ يمكنُ أن تحاسبَهُ على خطاياه، فهو محصّنٌ ومؤمّنٌ بمؤسسةٍ افتراضيّةٍ ضخمةٍ تحكمُ العالمَ وتسيّرُهُ بحسب مشيئتها وخططها وقوانينها القائمة على نفي الواقع وإحلال الوهم، ولعلّ أكثر سكّان المعمورة الآن يعيشون في قارّات العالم الافتراضيّ أكثر من عيشهم في قارّات الأرض الواقعيّة، وهو ما يفرض عليهم يوميّاً أنماطاً جديدةً من العيش تقدّسُ الوهمَ وقد تحوّلَ إلى ما يشبهُ ديناً لا حيلةَ لأحدٍ في تفادي اعتناقِهِ، والرضوخ والإذعان المطلق للإيمان بشريعتِهِ والدخول في جنّتهِ والتلذّذ بنعيمِ وهمِهِ أو الاكتواءِ بحجيمِ نارِهِ المفترضَة.
تسويق الوهم
العالمُ الافتراضيّ بدأ يتسلّلُ نحو العالمِ الواقعيِّ كي يلتهمَهُ ويفرضَ قوانينَه عليه، وثمّةَ استجابةٌ هائلةٌ من لدن العالم الواقعيّ لكلّ ما هو افتراضيٌّ يسري بقوّة في أنساغِ الواقعِ ليحوّلَه إلى محضِ افتراضٍ، وقدّمتْ هذه الرؤيةُ الافتراضيّةُ أساليبَ بالغةِ التعدّد والتنوّع والإدهاشِ والإغواءِ لتسويقِ الوهمِ بوساطةِ شركاتٍ ذاتِ كيانٍ، فيها فصائلُ مدرّبةٌ من الموظفين الذي يُحسنونَ هذا العمل لإيهامِ الناسِ مثلاً بشراء عقاراتٍ افتراضيّة يدفعون فيها أموالاً لاقتناء شققٍ في الهواء، يسخّرون فيها من أجل الإقناع كثافةً كلاميّةً تخترقُ وعيَ الضحيّةِ حتى تجعلَهُا في حالة من الغيبوبةِ السحريّة، تشعرُ أنّها تملّكتْ الشقّة المعروضة على شاشة الكلام وشاشة أخرى تعمل بوصفها ظهيراً إقناعيّاً لشاشة الكلام من دون أن يقبضَ شيئاً في الواقع، حيثُ ينصرفُ ذهنُ التلقّي بكُليّتِهِ نحو اللاشيء باعتقادِ أنّه الأشياءُ
كلُّها.
فالمستشار الذي يتولّى عملية الإقناع بما تمرّن عليه من أساليب حجاجٍ وإقناعٍ مكتظّةٍ بابتساماتٍ رحبةٍ تجلبُ الطمأنينةَ والراحةَ واليقينَ، يقتنصُ الفرصةَ المتاحةَ له أمام ضحاياه/زبائنهِ بتمامِها وبأريحيّةٍ كاملةٍ بلا أدنى احتمالٍ للإخفاقِ وكأنّه يتعاملُ مع شخصيّاتٍ ورقيّةٍ لا حيلةَ لها سوى الإيمان العريضِ بما يقول، ويجتهد في أن يمحوَ من ذهنِ الزبونِ/الضحيةِ وهو في حالة استلابٍ شبه مطلقٍ أيّةَ صِلةٍ له بشيءٍ عنوانه الواقع خارجَ الجوّ الذي يشيعهُ ببراعةٍ لا تُنكَرُ، لأجل أن يقتنعَ أنّ الفضاءَ الافتراضيَّ هو الفضاءُ الحقيقيُّ البديلُ وعندها يقع في الفخِّ ويحصل على شقّةٍ (خمس نجوم) حول العالم افتراضاً لا واقعاً حتماً، بمعنى أنّه يصبحُ شخصيّةً في روايةٍ يحقّقُ له الراوي داخلَ المتخيّل السرديّ ما يشاءُ في عالمٍ
إيهاميٍّ من ورقٍ.
يبدو أنّ سياقَ المعالجةِ هنا يجري في غير صالح هذا العالم الافتراضيّ وما ينطوي عليه من تقاليدَ ورؤياتٍ وأخلاقيّاتٍ وثقافاتٍ، وهو صحيحٌ في درجةٍ ما من درجاتِ النظرِ العلميِّ على وفقِ رؤيةٍ أخلاقيّةٍ سادتْ مجتمعاتنا ردحاً طويلاً من الزمن، وهي تتعرّض الآن لانقلابِ جذريّ في المفاهيم والمصطلحات والمعتقدات بما لا يمكنُ استيعابُها بسهولةٍ، وهذا حقٌّ طبيعيٌّ للدفاعِ عن الذاتِ والوجودِ والحضورِ الثقافيِّ المُؤسَّسِ على فضاءٍ إنسانيٍّ تراكمت الأخلاقيّاتُ الممثِلةُ له
في أزمانٍ ممتدّةٍ لا حصرَ لها، لكنّ الواقعَ الجديدَ الضاربَ في الهيمنةِ على شتّى بقاعِ الذاتِ الإنسانيّة المعاصرةِ استطاعَ بطغيانٍ هائلٍ تفكيكَ معظمِ المنظوماتِ الأخلاقيّةِ التقليديّةِ، والشروعِ بفرضِ أخلاقيّاتٍ تناسبُ الافتراضَ والوهمَ والاحتمالَ في صيرورةٍ زمنيّةٍ ومكانيّةٍ لا تسمحُ بالاختيارِ كثيراً، على النحو الذي يتوجّبُ فيه التعاملُ مع العالمِ الجديدِ بأقلِّ ما يمكنُ من الخسائرِ في منظورِ حرّاسِ المدارسِ القديمةِ في الحياة.
جيوش فضائية
هل ثمّةَ ضلعٌ إيجابيٌّ في هذا المثلّثِ غير المتساوي الأضلاعِ داخل هذه المعادلةِ الناقصةِ؟، ربّما يكونُ السؤالُ مُحرِجاً وشائكاً وملتبساً للغايةِ إذا ما أخذنا بنظرِ الاعتبارِ طبيعةَ المُرافعةِ التي بوسعِ محامي الدفاعِ حشدَ القرائنِ التي تسهّلُ له تقديم دفوعٍ ناجعةٍ لها على نحوٍ ما، لكنّنا مع ذلك لو نظرنا نحو القضيّةِ بهدوءٍ قَصْديٍّ يتقصّى رائحةَ الملامحِ الإيجابيّة في هذا الضلع المُحتمَلِ سنجدُ بالتأكيدِ شيئاً ممّا نبحثُ عنه، ولاسيّما على صعيد المنهج الذي تستندُ إليه الجيوشُ الفضائيّةُ لهذا العالم الافتراضيِّ وهي تصوغُ آليّاتِ عملٍ عاليةَ الكفاءةِ والأكاديميّةِ، وهو منهجٌ يُفيدُ من أبرزِ ما وصلتْ إليه مناهجُ البحثِ والتفكيرِ والحجاج لبلوغ الأهدافِ بأسلوبٍ بالغ الرقيّ، يدحضُ أيّة محاولةٍ تهدفُ إلى عرقلةِ مسيرتِهِ المنهجيّة في توكيدِ وجهة نظرهِ وفرضِها بقوّة المنطقِ والحجّة وسحرِ الأداةِ الأسلوبيّة الفائقةِ، حتّى وإن كانت الأهدافُ المرسومةُ لا تتوفّرُ على قيمةٍ أخلاقيّةٍ في عُرْفِ الثقافةِ الاجتماعيّة المُتعارَف عليها.
هل علينا في هذا الظرفِ الصعبِ أن نطوّعَ إمكاناتنا ونفتحَ مستقبلاتنا على أفقٍ غيرِ مُتعصّبٍ كي نكونَ قادرين على تمثّلِ عصرِ الميديا المرعبِ، والاشتغالِ على ابتكارِ سُبُلٍ تُمكننا من تكييفِ ما لا نحبُّ لأجلِ ما نحبُّ بقدرٍ مناسبٍ من الموضوعيّةِ والتفهّمِ وتفضيلِ نصفِ فرصةٍ متاحةٍ للحياةِ على فُرصِ الموتِ التي لا تعدُّ ولا تُحصى؟، لا بُدَّ من ذلك قطعاً حين تضيقُ الخياراتُ أمامنا ولا يبقى في أيدينا سوى إدراك قيمةِ الرؤيةِ المنهجيّة الحديثةِ هذه، وتمثّل معطياتها وخصائصها ومكوّناتها وتجليّاتها بعلميّةٍ ومعرفيّةٍ ورحابةٍ حتى يكونَ بإمكاننا شحن أرواحنا بطاقةٍ استثنائيّةٍ إيجابيّةٍ، تنتمي إلى نادي العصرِ ولا تصبحُ رقماً زائداً تائهاً بين المسافاتِ وعالةً ثقيلةً على عالم الحسابِ.