كينغستون: بي بي سي
تميّز الفنان من تشكل فعالياته المتباينة والمتواصلة. فالتباين ينحو إلى استعمال البنى الفكرية وتطويعها لصالح الأسلوب الفني من جهة، والهوية الفنية من جهة أخرى. وهذه البنية المشار إليها تتعدد مناحيها وفق حيوية الفكر وجدليته، بما يعطي وجوهاً لا نقول مختلفة، وإنما ذات دلالات متعددة، من منطلق الاختصاص والخصوصية. فللمرة الأولى منذ 40 عاماً، رست سفينة سياحية في ميناء “بورت رويال” التاريخي بمدينة كينغستون عاصمة هذا البلد الواقع في منطقة الكاريبي.
حينذاك، مدت سلطات الميناء رصيفاً عائماً جديداً ومبتكراً، ليتدفق عليه 2000 زائر، قادمين من سفينتهم الضخمة، التي حملت اسم “ماريلا ديسكفري 2”، وعلى وجوههم علامات البشر والحبور.
كانت هذه بلا شك لحظة فخر لـ “كينغستون” وسكانها؛ وأملا تحدث عنه الجميع قبل ذلك طويلاً، دون أن يتسنى له أنْ يتجسد أمام أعينهم؛ إما بفعل الخلافات السياسية في أغلب الأحيان، أو جراء افتقار بورت رويال لجهود التطوير والتنمية.
على أية حال، فتح وصول هؤلاء السائحين إلى الميناء، فصلاً جديداً مشرقاً في التاريخ الحافل بالأحداث لهذه البقعة؛ وهو تاريخ يعرفه الكثير من الجامايكيين جيداً، رغم أنه يندر الحديث عنه خارج حدود بلادهم. فـ “بورت رويال”، وهي الآن قرية صيادين وادعة نسبياً، تقع في نهاية شريط رملي يمتد لمسافة 29 كيلومتراً تقريباً خارج كينغستون، لم تكن على هذه الشاكلة في أواخر القرن السابع عشر؛ إذ كانت موصومة آنذاك بسمعة شائنة، إلى حد جعل البعض يصفها في تلك الفترة بـ “المدينة الأكثر شرا على وجه الأرض”.
للتعرف على أسباب ذلك، يتعين علينا توضيح الأجواء، التي سادت هذه الحقبة الزمنية البعيدة. فوقتذاك، وتحديدا في العام 1655، انتزعت قوة استكشاف إنجليزية، السيطرة على جاميكا من يد الإسبان، بعدما أخضعوها لسيطرتهم لأكثر من 150 عاما، بسبب موقعها الستراتيجي. بعد ذلك، سرعان ما تحولت جامايكا إلى مصدر ربح لحكامها الجدد.
لكن الافتقار للموارد البشرية، أجبر حاكمها الإنكليزي وقتذاك إدوارد دويلي، على أن ينشد الحماية من تحالف يتألف من القراصنة المزودين بسفنهم المدججة بالسلاح. وبفعل هذا الأمر، مُضافاً إليه تراكم الثروات الناجمة عن التجارة في العبيد والسكر وخشب البقم؛ تحولت “بورت رويال” إلى مرتع لا ضابط له ولا رابط؛ لتداول الأموال ومعاقرة الخمور وممارسة الجنس.
لذا لم يمض وقت طويل، حتى تراكمت الثروات في تلك المنطقة، التي أصبحت مدينة عُرِفَت آنذاك، بأن الحانات والمواخير، تشكل رُبع مبانيها على الأقل. كما أصبح انغماس القراصنة المقيمين فيها، في الملذات والشهوات، وإصرارهم على تجاوز كل الحدود، مادة خصبة للحكايات والأساطير. فضلا عن ذلك، اجتذبت “بورت رويال”، عدداً من مشاهير البحارة في تلك الحقبة، مثل الكابتن هنري مورجان. وهاجم هؤلاء الموانئ الإسبانية، التي كانت تعاني من ضعف دفاعاتها؛ وسلبوا ما فيها. لكن أولئك البحارة، لم يكونوا يتورعون في الوقت ذاته، عن المسارعة بإنفاق كل ما يحصلون عليه من أموال، على ملذاتهم الدنيوية المبتذلة.
ويقول المؤرخ بيتر غوردون المقيم في هذه المنطقة “فلتتصور مدينة، تغص بهذا القدر الكبير من الذهب، ويوجد فيها أولئك الرجال ذوو الشخصيات المريبة، ممن كان بوسعهم القيام بكل ما يرغبون فيه. (وإذا عرفت) أن عدد المواخير والحانات والكنائس كان متساويا في `بورت رويال` حينذاك، فسيكون بمقدورك؛ تخيل أي أجواء قاسية وفظة كانت تسودها”.
لكن في صباح السابع من حزيران 1692، تبدلت هذه الأجواء تماما، بل وتغير وجه “بورت رويال” نفسها إلى الأبد. فقد ضرب زلزال هائل المدينة، ودمر الجانب الأكبر منها وأودى بحياة ألفيْن من سكانها.
ومنذ ذلك الحين، لم تعد “بورت رويال” قط، إلى ما كانت عليه في السابق. ويقول سلفينيوس وولترز المسؤول التقني عن قسم الآثار في صندوق التراث الوطني بجامايكا: “دمر الزلزال الجانب الأكبر من بورت رويال.. التي كانت تمتد على مساحة تقارب 52 فدانا.. ثلثا هذه المساحة دُمِر تقريبا، وغرق في منطقة مرفأ كينغستون. فقد ألحق الزلزال دمارا شبه كامل بالمباني، وأزهق أرواح الكثير من الناس، جراء انهيار الجدران عليهم. بل إن عدد القتلى فاق نصف السكان”.
ويحلو للبعض تسمية هذا الموقع، “بومبي الكاريبي”، في إشارة إلى مدينة بومبي الرومانية القديمة، التي دمرها بركان في القرن الأول الميلادي، وظلت مطمورة لمدة تقارب 1600 عام، قبل أن يُعاد اكتشافها خلال القرن الثامن عشر.
ولكن هل تثير القصص ذات الطابع الفضائحي المتعلقة بماضي “بورت رويال”، وكذلك علاقتها القديمة بتجارة العبيد، مشاعر متباينة ومشوشة لدى مواطني جامايكا حاليا؟ في سياق الإجابة على هذا السؤال، يقول غوردون: “لطالما كان سكان `بورت رويال` فخورين بتراثهم.. فغالبية مواطني جامايكا، كانوا من الأفارقة المستعبدين، ممن تحولوا إلى تجار مهرة، وبعضٌ من أبرع هؤلاء، كانوا في واقع الأمر هنا في `بورت رويال`.. كانت هذه المنطقة تغص بمثل هؤلاء الأشخاص. ونحن - بوصفنا أحفادهم - نفخر بما أنجزوه”. ويأمل القائمون على مشروع تطوير “بورت رويال” أن تشكل أطلال المدينة الغارقة جنبا إلى جنب مع الشعاب المرجانية الموجودة إلى جوارها، جزءا من “مسار مقترح”، يضم عددا من المعالم التاريخية، ويشمل متاحف ومواقع تنقيب أثرية ومعارض تفاعلية.
ويدفعنا ذلك للقول إن “بورت رويال” باتت الآن على ما يبدو، إزاء فرصة انتظرتها طويلا، لكي تضع نفسها على خريطة السياحة العالمية، في ضوء بشائر بقدوم مزيد من السفن السياحية إلى سواحلها خلال العام المقبل، ما يسمح لعدد أكبر من الزوار، بالتعرف على ماضيها الفريد من
نوعه.