الأوبئة كالحروب.. بعضها للهيمنة وأخرى للتعاون

بانوراما 2020/10/02
...

بيتر سي بيردو
 
ترجمة: ليندا أدور
حيثما يسير الجنود، يتبعهم الطاعون، هذا ما يكشف عنه التأريخ الصيني، فالامبراطوريات كبيرة والميكروبات صغيرة، لكن كلاهما شكّل التأريخ من خلال غزوهم الأراضي والأجساد، تاركين وراءهم الموت والمرض والدمار. بالرغم من ذلك، نجا البشر من عديد من تلك الغزوات، محققين وبتكلفة مضنية، قوامها السلام والعلم والحماية.
 
أقدم الغزاة، كالرومان في بريطانيا والمغول في الصين، في بداية الأمر، على ارتكاب مذابح بحق السكان المحليين الذين لم يكونوا «منيعين» بعد، بعبارة أخرى، «مذعنين»، فقد لقيت أعداد ضخمة من الناس حتفها، لكن في ما بعد، توصل كل من الحكام والرعية، الى تسوية للخلافات، اذ حلت الضرائب العادية محل مجرد النهب. وعلى ذات الشاكلة، استقرت الأمراض بنسق مع الانسانية. فالخسائر الأولية بدأت بالانحسار مع ظهور فيروسات وبكتيريا جديدة من البراري رافقها تطور في المناعة، أو تحول الأمراض لتصبح أقل فتكا، الأمر الذي سمح بالوجود المشترك في ما بينهما، وإن كان الأمر مدعاة للقلق. 
 
الجدري والتجدير
سارت الأمراض والأمبراطوريات معا، ففي الموسوعة الطبية الصينية التي نشرت في العام 1742 بعنوان «المرآة الذهبية لتعلم الطب» التي كتبت بتكليف من الأمبراطور تشيان لونغ، تركت الأمراض المعدية علامة على صفحاتها، فرسم توضيحي تلو آخر، كان يشرح تفصيليا الآثار التي يخلفها الجدري، الوباء القديم الذي نقلته الجيوش الصينية الى بلدان أخرى، مصنفة إياه الى: بثور مجتمعة معا؛ مثل «أعشاش السنونو»، والثاني مثل «مخلب السلطعون» فتكون بثوره كثيفة من الأعلى وخفيفة عند الأسفل، والثالث هو «أثر الفأر» والذي تمتد في سائر الجسد. 
بهدف «تصحيح المعرفة الطبية» في عموم أنحاء الامبراطورية، أمر تشيان لونغ بكتابة الموسوعة وتم جمعها على مدى ثلاث سنوات من قبل مجموعة مختصة مكونة من 80 طبيبا ومسؤولا، ضمت أطباء امبراطوريين ودارسين ناسخين. ولمرض الجدري وحده، تم تخصيص أكثر من مئة صفحة للجدري في الموسوعة، فقد كانت الصين على دراية بالمرض، إذ شخصه أطباؤها منذ القرن الخامس عشر، وبناء عليه، قاد الصينيون الطريق نحو تطوير لقاح فعال، ولو جزئيا ضد المرض، عرف بـ «التجدير»، يتم من خلاله إدخال صديد وقشور من أشخاص مصابين الى مناخير بقية السكان.
حتى حلول القرن السابع عشر، كان مرض الجدري محصورا في الصين، حيث كانت مناطق أوراسيا الوسطى شبه معزولة عن الاتصال بالصين. لكن بالرغم من ذلك، فإن المانشو، الذين غزو سلالة مينغ منتصف القرن السابع عشر، ليصبحوا أسياد الصين تحت حكم سلالة تشينغ، وسعوا حكمهم ووصلوا الى منغوليا، وسرعان ما وقفت سلالة تشينغ على أحدث تقنيات مكافحة المرض، ومنها التجدير. لذا، عندما وجه المانشو دعوة لأنصارهم من المغول لزيارة الصين، تم اللقاء داخل قصر صيفي في منشوريا وليس بكين، بل حتى انهم اتبعوا قواعد التباعد الاجتماعي قدر المستطاع. كان تشيان لونغ، الحاكم الرابع لأسرة تشينغ، سعيدا بالنتائج التي اشتملت عليها الموسوعة، لدرجة أنه أغدق الهدايا والمناصب الجديدة على القائمين على كتابتها.
 
الأمير أمورسانا
كان الدالاي لاما على علم بالخطر الذي يشكله مرض الجدري، حتى أن الدلاي لاما وآخرين ممن زاروا بكين، عمدوا الى عزل أنفسهم داخل أديريتهم، مع ذلك، توفيت أعداد كبيرة من المغول والتبتيين بسبب الفشل في احتواء الفيروس، لتسارع أسرة تشينغ لاغتنام الفرصة، بعد أن توفي الأمير أمورسانا سنة 1757 بمرض الجدري، وهو آخر المدافعين المغول ضد هيمنة سلالة تشينغ. ووفقا لتقديرات أحد المؤرخين، فإن نحو 40 بالمئة من اتباع الأمير ماتوا بالجدري، وهي نسبة تفوق بكثير أعداد الذين توفوا بسبب الحرب أو المجاعة. 
كان لمرض آخر مستوطن في الصين منذ القرن الثامن عشر، الأثر العالمي ذاته من حيث أعداد الضحايا، فقد ظلت عصية الطاعون، التي اجتاحت أوروبا بما عرف بالموت الأسود، نشطة ضمن مناطق الجبال على الحدود الصينية- البورمية حتى القرن الثامن عشر، لتقتفي بعدها أثر التجار وعمال المناجم والجنود والمسافرين عبر مناطق جنوب غرب الصين. لكن بحلول القرن العشرين، انفجر المرض خارج فقاعته الصينية عبر هونغ كونغ ليصيب العالم بأسره، ما أدى الى ظهور العديد من أوبئة الطاعون خلال سنوات القرن العشرين التي ضربت القارتين الأميركيتين متسببة بوفاة أكثر من 100 ألف شخص. بحلول العام 1910، ومع عودة تفشي وباء الطاعون ثانية في منشوريا، شرع ناشطون بمجال الصحة العامة بدراسة المرض بمساعدة مختصين من الغرب، فقد كان وو لين تييه، الطبيب الصيني والماليزي المولد، أول من دعا لارتداء الكمامة القماش، التي حدت وبشكل كبير من نسب الوفيات.
تكشف موسوعة العام 1742، عن عمق وتكريس البحث الصيني بمحال الطب برعاية امبراطورية، وهي معرفة أسهمت بإنقاذ ارواح الناس وبناء الامبراطورية، فالأوبئة كالحروب، هم محاسبون قساة يختبرون مرونة الأنظمة المحلية والدولية. فالبعض يستخدمها بهدف الهيمنة، بينما يجد فيها آخرون فرصة للتعاون. مرة واحدة، على الأقل، حدث في الماضي أن تعاونت الصين والدول الغربية ضد تهديد مشترك، فهل يمكن أن تعاد الكرّة؟.