يصف بول ريكور التعامل السردي مع المعطيات التاريخية بأنه (عبور من فكرة علاقة سكونية إلى فكرة عملية دينامية تنطوي على إضافة فعلية إلى النموذج التصنيفي، لأن يضفي عليه التعاقب الزمني) وبالعبور من التاريخ إلى التخييل تنفتح الطرق بينهما بلا انغلاق ولا تحكم في المعاني التي تظل دوما مرجأة وليست نهائية.
وما كان لهايدن وايت أن يستعمل الميتا ـ تاريخ إلا لأن التاريخ تركيب ذهني مجرد يريد من الروائي لا أن يتخيل حسب وإنما قبل ذلك أن يمتلك رؤية فلسفية، فليست المسألة وجود (متخيل تاريخي) وإنما قبله وجود (متفكر فلسفي) يبني عليه أساسات يستند اليها المتخيل التاريخي، فتجتمع الفكرية بالشعرية ويكون اللغوي التأويلي هو همزة الوصل بينهما. وهو ما نجده في(رواية التاريخ) التي تنزع إلى مقاومة فكرة الاكتفاء بالتاريخ وحده، عابرة عليه فنيا، مزحزحة ثوابت التاريخ، متخلخلة مواضعاته؛ ليبدو كأنه متاهة والذات تقف خارج فعله، متحررة من الخضوع له، ناظرة إليه كفضاء لا زماني بإرادة قوة نيتشوية وبتفكيكة دريدية وبجينالوجية فوكوية.
ولا يقتصر العبور في (رواية التاريخ) على التجنيس وإنما يشمل تداخل البعدين الكتابي والقرائي. هذا التداخل الذي يجعل التأويل مدججا بذاكرة مضادة وبرؤية مناورة وواعية، فلا يعود المقروء تركيبة كتابية واحدة هي مجرد واسطة بل تركيبة متشظية هي الواسطة والمرمى معا.
وفعالية المتخيل التاريخي لا تعتمد على منتجها ومتلقيها حسب؛ بل على قدرة المتخيل نفسه في المناورة بين الشكل والمضمون أيضا، فيصبح الميتا تاريخ والميتارواية سواء بسواء، بمعنى أن الانحراف المعياري في الارتكان إلى عناصر السرد الروائي هو نفسه الانحراف المعياري في الاعتماد على المعطى التاريخي بحثا عن فجوات أو ثغرات، منها ينفذ السرد إلى التاريخ فيظهر ما خبأه الأخير عن الأنظار.
من هنا تصبح (رواية التاريخ) كتابة منتفضة في بعديها السردي والتاريخي، ليس فيها تعال ولا حتمية؛ بل هو تحشيد لا فرق فيه بين عمل الفكر وحتمية الصدفة واعتمال النسيان.
وبمنحى العبور تتمكن هذه الرواية من أن تتعدى خرق المنطق التاريخي إلى التمادي في التخييل السردي بوحا وتفنيدا ونفضا وتضادا. وعندها يكون الإيهام قد وصل بالتاريخ حدا تم فيه استجوابه بوصفه متهما يراد إثبات إدانته. ولكي تتم استدامة هذا الفكر الفلسفي يحتاج ذلك من الروائي بناء رؤية فنية هي بمثابة ستراتيجية كتابية بها يدشن أنساقا جديدة بديلة عن الأنساق التي تواضعت عليها الرواية الحداثية الواقعية منها والتاريخية وهي تداهن الفهم المتعالي للتاريخ كمدونة أرشيفية لا يطولها الشك صلدة وصلبة.
واذا كان لكل اصطلاح حاضن ثقافي يهيئ لاستقباله أما كشكلية اجناسية أو كموضوعية فكرية، فإن الحاضن الذي ينطلق منه مصطلح (رواية التاريخ) هو نقض الثقافة المتروبولية مع المراهنة على نجاعة اللاتمركز في استعادة محورية الأطراف، لتكون ذات ثقل مادي ومعنوي يستنبذ الاستقطاب وما فيه من رؤى أحادية وتصورات فوقية منتزعا استعلاءها ومستبدلا ثقاقة الشمول بثقافة التنوع والانفتاح والتعدد حيث لا نخب ولا أصنام.
ضمن هذه الآفاق الرحبة والمستقبلية يستحضر مصطلح (رواية التاريخ) التاريخ من أجل تحويل صورته كعلم ينطوي على ما حدث فعلا إلى صورته كسرد يحبك ما كان قد حدث كي لا يعود كما حدث فعلا.
وتعد رواية (كائن الظل) لإسماعيل فهد إسماعيل الصادرة عن دار الهلال 1999مثالا لـ( رواية التاريخ) التي فيها ينصهر التاريخ متمظهرا كفاعلية تمثيلية، وهي تفتتح هكذا (نادرا ما يجد كاتب رواية ما نفسه ملزما بذكر مراجع استعان بها لكتابة نصه) وفي هذا القول إشارة مهمة توجز ما كنا قد قدمناه عن العلاقة الصميمية بين السرد والتاريخ اللذين يتغلغل كل واحد منهما في الآخر حتى لا تعود مع هذا التغلغل حاجة لذكر مراجع تاريخية أو تحديد تقانات سردية.
وبطل الرواية وساردها باحث جامعي يعد رسالة اكاديمية في (بواعث العجب في حياة أشهر اللصوص العرب) وما بين الحلم واليقظة يظهر له فجأة حمدون بن حمدي كشبح أو ظل هو حرامي بغداد المشهور وفي جعبته حقائق محتها او طمستها كتب التاريخ. فيقوم بوضع تلك الحقائق أمام أنظار الباحث في شكل مخطوطات وكتب كانت قد فقدت من المكتبات بسبب ما فيها من شواهد تبين أنّ للصوص أساليبهم وحيلهم كما أن لهم مواقفهم النبيلة ونوادرهم وكرمهم . ومما مارسه الكاتب من نقض لثوابت التاريخ انه جعل مالك بن الريب شيخ اللصوص، وهنا يتصاعد الحبك وقد صار الباحث مصدوما فكتب التاريخ التي قرأها لم تُظهر هذا الشاعر إلا بمظهر ممتاز كأول شاعر رثى نفسه. وهنا يخرج اللص نسخة من كتاب( أشعر شعراء اللصوص وأشهرهم مالك بن الريب حياته وشعره) كوثيقة تاريخية كانت في ما مضى متوفرة في دكاكين وراقي بغداد لكنها في زماننا مغيبة. أما ديوانه فيتم تغييبه أيضا «.. لسنوات طوال من صدر العصر العباسي أدرجته رقابة الكتب على قائمتها السوداء فصودرت نسخ الوراقين ومنع تداولها في أوساط العامة، اعتقادا من أولي الأمر أن ابن الريب محسوب على الأمويين» الرواية، ص86.
وبتنقل الرواية في غياهب التاريخ المجهولة يغدو الأمر مسليا لأنه فيه من التزييف يجعلنا حائرين متوجسين، كما حصل مع السارد الذي ظل مترددا بين أن يهرب من الزمان «وضعك بأمان ما دمت خارج الزمان»الرواية ص126 أو أن يكون مجرد ظل لا يؤثر، بيد أن الاحتمالات كلها تظل مفتوحة من خلال تساؤل فلسفي يطرحه السارد على نفسه وبه تختتم الرواية» بصرف النظر إن كان ابن حمدي أم أنا، لماذا الإصرار على فصل الخيال عن الحقيقة» الرواية، ص130.
وبهذا يكون الكاتب إسماعيل فهد إسماعيل قد صنع من( رواية التاريخ ) تاريخا جديدا، فيه يجد القارئ الفرصة سانحة لإعادة التفكير في التاريخ الإسلامي عموما والعباسي تحديدا. فالتاريخ ليس أحداثا فقط بل هو قيم مكانها وعينا الجمعي. وإذا كان النسيان ماحيا فعل الماضي؛ فإن الذاكرة تخط غيره متضادة مع النسيان. وبذلك يظل الفضاء الكتابي لا نهائيا، تتكاثر فيه اللاحقائق كالفئران كما يقول ميلان كونديرا.