بلا مواطنة ولا توطين ..غجر عراقيون خارج نطاق الانتباه

ريبورتاج 2020/10/21
...

  الحلة : محمد عجيل 
في الشوملي وعلى بعد70 كم جنوب شرق مدينة الحلة، وبالتحديد في المنطقة المحصورة بين محافظتي واسط وبابل، عاشت لعدة عقود أسر،  لم تجد مهنة سوى الرقص والمتاجرة بالجنس، اطلق عليهم الغجر، وهم قوم رحل يجوبون العالم، ويعتمدون بالدرجة الأساس على التسول والاحتيال وقراءة البخت والتجارة الجنسية، لم يفكروا يوماً بالمستقبل، فقد كان همهم الوحيد، كسب قوت يومهم ، وكسوة اجسادهم بعيداً عن الحياة وتطلعاتها، حتى أولئك الأطفال الذين يولدون في كنفهم لم يجدوا فرصة للتعلم.
وليس فقط الشوملي من تحتضن الغجر، فهناك (الفوار) جنوب الديوانية، والمدير في قلعة صالح في محافظة ميسان، وابو غريب والعبيدي في بغداد، كما يتواجد بعضهم في شارع الوطن بالبصرة.
 
عودة
في عام 1991 انطلقت في بابل الانتفاضة الشعبانية ضد النظام الدكتاتوري، وكان من ابرز المتغيرات التي ظهرت على الساحة آنذاك،  إلغاء ظاهرة الغجر، لكونها تمس الكرامة، فاضطرت تلك الاسر الى المغادرة، بحثاً عن مأوى وكسب مادي جديد قائم على التسول في الطرقات وإشارات المرور، وبعدما سيطر النظام على الاوضاع الامنية، سمح لهم بالتجمع مرة اخرى والعودة الى موطنهم الذي عاشوا فيه، اذ لم يكن ذلك حبا وتقديرا لهم، وانما لإشباع رغبات الكثير من المسؤولين الذين يرتادون مناطق الغجر. 
 
صولة جديدة
في عام 2003 تعرضت مناطق الغجر الى صولة جديدة، في ظل السلاح المنفلت وغياب القانون الذي رافق دخول القوات الاميركية للعراق، وفي هذه المرة كانت الوطأة اشد عليهم، اذ احرقت بيوتهم وقتل البعض منهم في مواجهات مع مجاميع مسلحة، ولاندري من اين جاء الغجريون بالسلاح، ما اضطرهم الى الانتشار وسط المدن وعلى اطرافها، ولكن ليس بطريقة التجمعات، اذ كانت تلك طامة كبرى مثلما يقول مؤيد عليوي، لانها فرضت امراً واقعاً جديداً قائماً على مجاورة الغجر، واضاف عليوي "ان قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم، تختلف اختلافا جذريا عن القيم الاجتماعية السائدة بيننا، ولا يمكن باي حال من الاحوال القبول بالتكيف معهم، وعلى الحكومة ان تجد حلا من خلال انشاء مجمع سكني خاص بهم، واعتقد ان الامر له علاقة بالجوانب الامنية، اذ تنتشر تجارة الحبوب والمخدرات، وفي بعض الأحيان عمليات
الخطف".
واوضح  مؤيد "ان استهداف مناطق سكن الغجر كان قرارا خاطئا، بغض النظر عن الجهة التي قامت بذلك، سواء كان لدواع اجتماعية او دينية، لان تحديد مناطق سكنهم وإيجاد عنوان دائم لهم افضل بكثير من انتشارهم بين المدن وفي الأحياء السكنية".
 
ابو غرق
لكن ماذا يقول الغجر أنفسهم، عما يشاع عنهم من عدم احترامهم للقيم الاجتماعية في المناطق التي لجؤوا اليها، رد على ذلك مختار مجاميع الغجر التي تعيش في ناحية ابي غرق، الواقعة بين محافظتي كربلاء وبابل، والذين يقدر عددهم بأربعين أسرة، قائلاً "ان ما يشاع حولنا محض افتراء، ولا صحة له، فنحن نعيش على ما نحصل عليه من مساعدات من رجال اعمال او منظمات إنسانية، وفي بعض الأحيان نلجأ الى التسول بعد أن ضاقت بنا سبل العيش، نتيجة غياب فرص العمل، ورفض اصحاب المصالح انخراطنا معهم".
واكد المختار "ان الغجر لا يملكون بطاقة تموينية خاصة بهم، لانهم بالأساس لا يملكون ما يثبت عراقيتهم في السجلات المدنية، وعليه نحن نعيش بلا مستقبل، واطفالنا مشردون من دون تعليم او صحة، وتجد الأمراض تنهش غالبيتهم، وفوق هذا وذاك يتهمنا المجتمع بالتجاوز على قيمه الاجتماعية".  
 
دموع
مع دموعها التي لم تنقطع طيلة حديثها معنا، تحدثت رضية مهدي (50 عاماً)، عن ظروفها القاهرة، وكيف فقدت احدى بناتها في زمن الانفلات الأمني على يد عصابة مسلحة، اذ لم تتوان في اطلاق النار على كل الاسر الغجرية في محافظة الديوانية، وبدأت رضية تسرد معاناتها بالمثل الدارج (شجابرك على المر..غير الامر منه) مبينة "حينما لم نجد حياة كريمة تحفظ لنا حقوقنا بالمواطنة، اضطررنا الى سلك طريق آخر، نرى انه صعب ومرفوض، لكن ما باليد حيلة، اذ لابد من العيش سواء عن طريق التسول او الرقص وغيرها".
 
سوريون
ونحن نستدل على مركز تجمعات الغجر من خلال ما نجده منهم في إشارات المرور، او عند أبواب المراكز التجارية، شاءت الأقدار أن نلتقي مع بعض منهم، قالوا لنا انهم من البلد المجاور سوريا، وبالتحديد من حماة، دفعتهم الظروف الامنية الى عبور الحدود، يذكر ابو وليد ان العدد الكلي لأقربائه يزيد على السبعين شخصاً ، بين رجل وامرأة رمت بهم الظروف  في سوريا الى العراق، وقال "نحن غجر سوريا نختلف عن غجر العراق،  من حيث المهن اولاً، اذ نمتهن صناعة الأسنان وفك السحر وقراءة الكف، ولا نتاجر بأجساد النساء، وثانياً ان الحكومة السورية عالجت مشكلتنا في التجنيس، وأعطتنا بطاقة وان كانت من الدرجة الثانية، لكنها تسمح لابنائنا بالتعلم والتأمين الصحي، اضافة الى الحصول على جواز سفر".
واضاف ابو وليد "ان الظروف الاقتصادية القاهرة، دفعت السوري الغجري الى التسول، لكنه لم يزايد على بلده، من حيث الانخراط مع المجاميع الارهابية، وسنعود يوما ما الى سوريا، ونسهم في بنائها". 
 
فرص عمل
يا ترى لماذا تقف الحكومة مكتوفة الايدي تجاه هذه الظاهرة الاجتماعية؟، اذ الانحطاط القيمي والأمني، وجرائم السرقات التي هي نتيجة حتمية للظروف الانسانية التي يعيشها هؤلاء، يجيب عن هذا التساؤل، نائب محافظ بابل الدكتور حسن منديل قائلاً "لعل ابرز المشكلات التي تواجهنا في وضع الحلول، هي عدم وجود بيانات صحيحة ورسمية عن اعداد تلك الاسر، وهي ظاهرة متراكمة منذ عهد بعيد، تسبب فيها الغجر انفسهم، الذين قبلوا العيش بهذه الطريقة، خوفا من التزامات التجنيد وغيرها، لكن رغم ذلك وافقنا ان يعيش هؤلاء مؤقتا، سواء على أراض تابعة للدولة او للأشخاص، على أمل ايجاد حلول سريعة لمشكلاتهم، والتي من ابرزها توطينهم، وبحث إمكانية منحهم البطاقة الموحدة، وزج أطفالهم في المدارس الحكومية، وتوفير فرص عمل مناسبة لهم".
لكن الناشط بحقوق الانسان حسين الفنهراوي يشكك في مصداقية الحكومة في حل مشكلة الغجر، اذ قال "انهم لا يحصلون على ابسط حقوقهم بالتعلم، وهو حق مكتسب لجميع من يسكن على ارض الوطن، من عراقيين وعرب، وليس له علاقة بالأوراق الرسمية، فكيف يمكن للحكومة أن تفكر في توطينهم، او توفير فرص عمل 
لهم".
واضاف الفنهراوي "تشير التقارير الامنية الى ان 50 ٪ من مرتكبي جرائم المخدرات والاغتصاب، يستخدمون مساكن الغجر في تنفيذ جرائمهم، كما ان 90 ٪ من المتسولين في الطرقات وإشارات المرور، ينتمون اليهم، سواء كانوا اطفالاً او نساء وشيوخاً، ما يعني ان وضع المعالجات لهذه الظواهر السلبية، يتطلب دراسة ظاهرة الغجر ومسبباتها اولا، وفتح آفاق التعاون مع المؤسسات الدولية ثانياً".
 
مساعدات إنسانيَّة
والحق يقال ان مناطق سكن الغجر، تتلقى مساعدات إنسانية كثيرة، سواء من قبل منظمات عراقية او دولية، ويشير الى ذلك عباس الركابي من منظمة حقوق المرأة قائلا "ان مناطق سكن الاسر الغجرية، تكاد تكون من اكثر المناطق اولوية من قبل منظمتنا، ففي هذا العام ونتيجة انتشار جائحة كورونا، تمكنا من زيارتها اكثر من اربع مرات، وزعنا من خلالها المواد الغذائية، وقمنا ايضا بتعفير البيوت، بالتعاون مع خلية الازمة الحكومية، وقدمنا أدوية ومضادات حيوية، وأجرينا ندوات إرشادية، لغرض تعريف هذه الاسر بمخاطر المرض، وكيفية تجنبه من خلال التباعد الاجتماعي والالتزام بساعات الحظر الصحي".