ياسين النصير
المدينة بمواصفاتها الحديثة، كائن حي، المدينة بوصفها فضاء يحوي مراكز ومواضع ومواقع وأمكنة، كائن بأطراف تتعالق مع مدن أخرى متجاوزة الحدود فيما بينها، عبر الاتصالات ووسائط النقل والثقافة والتبادل التجاري، المدينة بعدّها كيانا عضويا في فضاء البلاد، تتحول إلى كائن يخفي نصف وجوده في النصف المعلن منها، وعندما تبحث عن أي مدينة في فضاء البلاد، ستعطيك البلاد نصفها، بينما تحتفظ بنصفها الثاني لها، هكذا تصبح البلاد سلطة على مدنها، والمدن سلطة على أمكنتها ومواضعها وأحيازها، وكل من هذه التفرّعات تتحول إلى سلطات مهيمنة على مافيها.
في مفهوم المدينة الجسد، تتضح أمامنا ثلاثة مستويات لحضور الجسد، المستوى الأول هو إنتاج المدينة، لا تُسمى المدينة مدينة دون إنتاج يغذي مفاصلها ويديم حضور اسمها ويجعلها ممتدة في مدن أخرى، وهذا المستوى هو الذي يؤلف نسيجها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ولنا في بعض مدننا هويات لها واضحة، في حين أن مدننا عراقية أخرى، لا تنتج ما يعين هويتها، تصبح حالة عبء على غيرها.
المستوى الثاني، من هوية المدينة الجسد، أن يكون لها بنية الكائن الحي، ثمّة رأس يفكر، قد يكون سلطتها، أو اقتصادها أو موقعها، ففي بعض المناطق المهمة من الخارطة، تصبح مدنا مهمشة، وثانوية أساسية في مفهوم المدينة الرأس، خذ مدينة القرنة، صنع ملتقى النهرين منها مدينة علامة، واضافت إليها شجرة آدم علامة تاريخية مثيولوجية عريقة، وأصبحت اهم مدينة ثانوية من حيث انتاج النفط، فحولها عالمية، وسكانها عاطلون عن العمل.
المستوى الثالث للمدينة الجسد، أن تتحول المدينة من المدينة الصورة، إلى المدينة الموضوع، ولم يكن لمدننا العراقية أن تتحول إلى موضوع، إذا لم يكن ثمة معمار هندسي يختص بها، وأهم عنصر في تحول المدينة من الصورة إلى الموضوع هو اللغة التي تحول الكلام عن المدينة إلى كلام المدينة، وهذه النقطة بالذات ما تجعل المدينة معلمة بتراثها، بانتاجها، بثقافتها، بمكونها الأنثروبولوجي، واية مدينة لا تملك كلاما، لن تكون جسدا، ولا حتى عضوا مهما في بنية البلاد.
هذه المستويات الثلاثة من علامات المدينة الجسد الحي، يرافقها تكوين معرفي يشمل المستويات، إذ لا يمكن أن نقول إن الاقتصاد وحده يعلم مدينة ويجعلها حيّة، دون العنصر الثقافي، ولا يمكن ان نقول إنّ البؤرة الرأسية في المدينة يكفي لأن تعلّمها، كأن تكون الزقورة وحدها علامة، أو باب عشتار وحده علامة، إلّا متى ما رافقها عمق حضاري، كذلك لا يمكن أن يكون كلام المدينة، ككلام البصرة أو الكوفة او بغداد أو نينوى، وحدها القيمة الفكرية والجمالية لهذه المدن ما يرافق ذلك من تجذير لمنظومة قادرة على إنتاج معارف جديدة، إذ لايمكن العيش في الماضي كليا، ولا في الحاضر كليا، فالمدينة الحيّة شجرة لها جذورها الغائرة في الماضي ولها جذعها المباشر للحياة اليومية، ولها أفقها المثمر للغد.
ثمّة ملاحظة جذرية، نصادفها اليوم في مدننا العراقية، على اختلاف تكوينها، وهي اهتمامها بالحشو الذي تستعيره من مدن أخرى، ومن بلدان أخرى، دون أن تنمي مقدراتها التراثية، معتقدة بذلك أنّها تحدث بنيتها، وتجدد حياتها، في حين أن ما يحدث هو العكس، كلما امتلأت المدينة بحواشي المدن الأخرى، اضمحلت وضعفت هويتها وأصبحت ملحقة بالآخر.