تربية ديمقراطيَّة

الصفحة الاخيرة 2019/01/15
...

حسن العاني 
في زحمة العمل وانشغالات الحياة، لم أنتبه الى أنني جاوزت السبعين من العمر، وأصبحت (جدّاً) لثمانية أحفاد، وقد اكتشفت من حيث لا أدري أنَّ علاقتي بهم طغت على علاقتي بأولادي، ولا أجد غضاضة في الاعتراف بأنَّ أصغرهم (الحارث) هو الأقرب الى مزاجي، والأحب الى روحي، إنه فتى لم يتخطَ العاشرة، كثيرُ العبث والمشاكسة، مع ميلٍ شديدٍ الى المرح والدعابة والمقالب..
كان الحارث يغتنم أوقات فراغي ويتوسل إليّ لكي ألعب معه النرد أو الدومينو، وبحكم الخبرة كنتُ أفوز عليه دائماً وأقرأ الحزن في عينيه، مع ذلك لم أعمد الى التحايل في اللعب كي أمنحه فوزاً غير مستحق، فذلك جزء من سياستي التربويَّة معه، وبعد كل خسارة له ألقي عليه محاضرة بشأن رحابة الصدر وضرورة الاعتراف بفوز الآخر وانتظار فرصة مؤاتية.. الخ
بعد شيوع الديمقراطيَّة وانتشارها السريع في السنوات الأخيرة، بدأت أعمل على تربيته تربية ديمقراطيَّة (بغض النظر عن عدم إيماني بها)، وإنّ من حقه المناقشة والقبول والرفض والاعتراض، ولكن يجب احترام المقابل ومنحه حريَّة التعبير المطلقة عن رأيه وموقفه وقناعته، حتى لو كان رأيه خاطئاً أو منافياً للمنطق أو يؤدي الى التهاب القولون العصبي، لأنَّ الديمقراطيَّة كما كنت أقول له: هي بهذه الصورة وعلى هذا النحو، حلوة وأنيقة مثل عروس ليلة زفافها، مغطاة بالبرقع والحمرة والكحلة والعطر وطلاء الأظافر، ولكن تحت المكياج والبرقع من الغرائب والعجائب والخبايا ما يشيب له رأس العريس، ومع ذلك فإنها تأتي أحياناً مثل القدر، لا فرار منه، ولا بدَّ من الالتزام بشروطها وقوانينها ومبادئها، الى أنْ تنضج قناعات الناس بها، وتعتاد عليها ويترسخ الإيمان بتناقضاتها وعند ذلك لا يصح في الديمقراطيَّة إلا الصحيح، وإلا ما ينفع الشعب، أما الزبد فيذهب جفاء!
كان حفيدي يصغي اليّ جيداً وأنا أشرح له ما يصعب عليه فهمه، ولعله تعلّم الكثير، وراح يتقبل الخسارة بحزنٍ أخفّ وطأة، إلا أنَّ رغبة الفوز ظلت مستعرة في أعماقه، ولذلك دعاني قبل أسبوعين بطريقة تقرب من التحدي الصبياني الى أنْ ألعب معه لعبة جديدة هي (حيه ودرج) – انقرضت تقريباً بعد رواج الألعاب الحديثة- وبالتأكيد فإنها لعبة طفوليَّة لا تليق بعمري وتفتقر الى المهارة، كونها تعتمد على (رمية الزار)، غير أنني وافقت في محاولة سرية لمنحه فوزاً يستحقه ولو عن طريق الحظ و.. وشاء حسن الحظ أنْ أفوز عليه في الجولة الأولى، وفي الثانية كذلك، أما الثالثة فكنت على وشك الفوز لولا أنَّ الرقم الذي أظهره الزار بعد رميه هو (4) وهذا الرقم هو الوحيد الذي يضعني في فم الأفعى التي تبتلعني وتعيدني الى المربع الأول، فاعترضت بحجة أنَّ الزار سقط من يدي، ونظر إليّ الحارث نظرة لا تخلو من ريبة، ورميت الزار ثانية وإذا الرقم 4 يظهر من جديد، فاعترضت بدعوى أنَّ الزار لم يسقط فوق الرقعة بل الى جانبها، ونظر إليّ حفيدي نظرة مليئة بالشك والريبة، ورميت الزار للمرة الثالثة فظهر الرقم (5) وربحت اللعبة.. قام حفيدي وهو صامت بمغادرة مكانه ووقف بعيداً عني وسألني بطريقته المشاكسة الظريفة (جدو.. الديمقراطيَّة هم بيها زغل؟) ثم هرب فيما كنت أشتمه وأشتم من علمه الديمقراطيَّة!!