سرور العلي
منذ ساعات الصباح الأولى تخرج أم حسين (56) عاما، وهي تحمل صواني البيض والاجبان والألبان والحليب، لتفترش أحد الأرصفة، بينما تأتيها النسوة من حين لآخر لابتياع ما تعرضه، وتقول بحماس وهي تعدل من وضع عباءة رأسها:"لم أجد معيلا آخر لي بعد وفاة زوجي، واستشهاد ولدي سوى تلك البسطة".
مهن شريفة
ويفضلن نساء كثيرات اقتحام سوق العمل مقابل أجور قليلة، بدلا من التسول والاستجداء وإراقة ماء الوجه، متحديات حر الصيف وبرد الشتاء.
أم زهراء (55 عاماً)، تتربع على الأرض في إحدى الأسواق الشعبية، وقربها كومة خضار تقوم ببيعها، لمواجهة ظروفها القاسية ولإعالة أسرتها وزوجها المقعد، تؤكد بنبرة ثقة:"لم أعر اهتماما لنظرات البعض، طالما أن العمل شريف، ويوفر لي لقمة العيش، بعيدا عن أساليب التسول التي أصبحت رائجة
الآن".
إلى جانبها تجلس أم علي (67 عاما)، وهي تغسل السمك وتجهزه لبيعه، ومنذ أربعين عاما وهي تمارس تلك المهنة، فأصبح لديها زبائن من مختلف الطبقات، وتعيل أسرتها ولديها ثلاثة أبناء جامعيين، وأحدهم على وشك أن يصبح ممرضا، وتوضح بابتسامة ودودة:"لن أرى عيبا في مهنتي، بل أجدها مدعاة للفخر، لأنني استطعت من إيصال أولادي إلى تلك المرحلة العلمية، دائما ما يطالبونني بالراحة وترك العمل، ولكن أصرُّ على الاستمرار لتعلقي بها".
رصيف الرحمة
وتؤمن تلك البسطات لقمة العيش للكثير من الأسر المتعففة، والتي تعاني من ظروف اقتصادية بائسة.
(ك، ص) (44 عاماً) وهي امرأة لديها ثلاثة أولاد، بعد انفصالها عن زوجها لم تجد غير الرصيف ملاذا لها، إذ تعرض عليه بضاعتها من الأكلات الشعبية التي تصنعها في البيت، ومن ثم تبيعها لتعيل أبناءها وتوفير كل ما يلزمهم، كي يستمروا في دراستهم وتقول بصوت مؤلم:"لم يكن زوجي صالحا، وكان معظم وقته مخمورا، ويعنفني مع أولادي إلى أن طلبت منه بأن يطلقني فكانت الأرصفة أرحم علي
منه".
أما أم أنس (55 عاما)، تجر عربتها الخشبية الممتلئة بسلال "الجرزات"، لتتجول في الأزقة والشوارع، فبعد استشهاد أولادها على أيادي عصابات داعش الإجرامية، ووفاة زوجها قررت الاعتماد على نفسها وعدم اللجوء لطلب المساعدة من الآخرين، وتبين"على الرغم من مشاق الشارع ومخاطره، ولكنه أفضل من البقاء من دون مال".
بنظرات بريئة مصوبة هنا وهناك، وبأنامل طفولية تمسك مروة جاسم (12) عاما، بأعواد "غزل البنات"، وهي تجلس على قارعة الطريق بانتظار اقتراب الأطفال وشرائهم منها، وبابتسامة تحدثنا:"أبي لا يستطيع العمل لأنه معاق، وأنا وأخوتي الصغار نتوزع بين الشوارع لكسب قوت
يومنا".
معاناة
ويتعرضن البائعات لمضايقات من أصحاب المحال التجارية، كونهن يفترشن بضاعتهن أمام محالهم، مما يسبب بمظهر غير لائق على حد تعبير الشاب محمد حسن، صاحب محل لبيع الملابس الرجالية، مضيفا "لم أسبب لأي واحدة منهن إزعاجا، ولكن بالنسبة لي أجد الأمر صعبا، لأنني أعرض بضاعة رجالية، فيتردد زبائن كثيرون وهن يقتربن أحيانا من المحل، فأطلب منهن الابتعاد فقط".
ويشكو صلاح عباس، صاحب محل لبيع المواد الغذائية من منافسة بائعات البسطات له، بسبب ما يعرضنه من بضاعة يعرضها هو، ويقوم بطردهن حالما يراهن بالقرب من محله، بينما يتعاطف زميله أحمد رسول (33) عاما، معهن إذ يقول:"يكفيهن ما يلاقينه من هموم ومصاعب في الحياة، لذا لا أتعرض لهن واسمح لهن بتأمين بضاعتهن في
محلي".
ظاهرة إنسانية
ومع اجتياح وباء "كورونا"، وفرض حظر التجوال يتذمرن أغلب البائعات من شظف العيش كما هو الحال مع خديجة، بائعة السجائر التي انقطعت وارداتها خوفا من الجائحة، فاعتمدت على ما تأتيها من معونات يتبرع بها الخيرين من أبناء
منطقتها.
وبحسب الباحث الاجتماعي خليل أحمد:"أن تلك الظاهرة لها أسبابها ودوافعها الإنسانية، لاسيما مع وضع اقتصادي متدهور وارتفاع في أعداد الأرامل والمطلقات، إذ لا يجدن من ينقذهن من آفة الفقر سوى الرصيف، خاصة من لديهن أطفال ويتكفلن بإعالتهم، ولهذه الظاهرة أبعاد سلبية نتيجة مغادرة الأم لبيتها وفساد أطفالها، وضياعهم في الطرقات وحرمانهم من رعايتها وحنانها، وتعرضهن للتحرش والمضايقات من المارة والزبائن، ومختلف أنواع العنف، وملاحقة رجال البلدية لهن وأصحاب المحال التجارية".
ويقترح أحمد"يجب أن تكون هناك منظمات خيرية تعنى بشؤون أولئك النسوة، والتكفل بتوفير احتياجاتهن وتحسين ظروفهن المعيشية".
ومن الناحية الشرعية يرى الشيخ أحمد الجاسم "ليس هناك مانع شرعي بعمل المرأة على أن تلتزم بهذه الشروط وهي، ارتداؤها للحجاب الشرعي، وحفظ مفاتنها وعدم إظهارها للمارة، وتكون بعيدة عن الاختلاط، وأماكن تواجد
الرجال".