لم يعانِ شاعرٌ في الكون مثلما عانى المتنبّي بسبب شاعريته الفذة، ولعل المعاناة نفسها تشتمل على قارئه وتجعله مأخوذا منقادا لسحر شعره؛ لكن الغريب هو أن عبد الله الغذامي المختبئ خلف نسق القبيلة الذي بدا نسقا مضمرا ومعلنا في آن واحد يفاجئ القارئ حين يشتغل اشتغالا قمعيا وهو في مواجهة المتنبي؛ فأغرب مايواجهنا في طرح الغذامي هو النسق الديني القامع، إذ يحاكم المتنبي بسلطة دينيّة، وأخال الغذامي يمسك بعصا ويلوّح بها من أعلى من منبر ليطلب من المؤمنين رجم المتنبي الكافر الذي كتب شعرا نهى عنه الرسول والاسلام ـ من وجهة نظر غذاميّة
متعسّفة ـ
وخير دليل مضحكٌ مبكٍ هو اعتماده الحديث الآتي (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خيرٌ من أن يمتلئ شعرا)، ثمّ يستطرد بالخطابات القامعة للشعر، والسؤال ـ هنا ـ هل كان الغذامي بصدد تحطيم الشعر أم تحطيم المتنبي أم تحطيم الشعر بتحطيم
المتنبي؟.
فبعد محاكمة دينية أخلاقية طويلة يبدأ الغذامي بتنسيق المضمر في الخطاب الشعري غاضّا جميع حواسه بما في ذلك الدقة والذاكرة وخادعا قارئه بحديث نبوي له روايتان، فالرواية الأدق والأكثر صوابا هي: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خيرٌ من أن يمتلئ شعرا هُجيتُ به)، وهي الرواية الأقرب للتصديق كون موقف النبي كان واضحا من الشعر في اكثر من مناسبة وقد اتخذه وسيلة إعلامية في معاركه مع قريش، فلماذا يتبنى الغذامي موقف السلطة في محاكمة المتنبي؟، ولماذا لم يحاكم نفسه دينيا كما فعل مع المتنبي؟، فقد قال الغذامي: ( وعبر انتساب المتنبي اليهم جرى تحوير العلاقات البشرية الانسانية ليكون الشاعر أباً لجدته، وقد قال مخاطبا جدته
في رثائه لها :
(ولو لم تكوني بنت أكرم والدٍ لكان أباك الضخم كونك لي أمّا)، والسؤال هنا ـ والغذامي يرفع سيف القامع الديني بوجه المتنبي ـ أنْ لماذا لم يستمر بآلته الدينية؟، فالنبي يقول : (فاطمة أم أبيها)، ولو وقفنا وقفة مجردة من أي تأثير موجِّه وضاغط لوجدنا في بيت المتنبي ماهو حقيقي، إذ استعمل المتنبي (لو) وهي حرف امتناع لامتناع، وقد قامت هذه الـ (لو) بمنع كونه أبا لجدته وذلك لكون جدته بنت أكرم والد، بمعنى أن لها أن تفخر بأبيها وابنها كونهما عظيمين مع امتناع فخرها بالابن لدخول (لو) المانعة لنفي كون جدّته بنت أكرم والد، لذلك امتنع ان يكون أبا لها، والأمر ـ
وفق قواعد النحو ـ