إبداعية الكتابة.. رؤى متجددة

ثقافة 2020/11/18
...

 أحمد رافع 

تقترن الكتابة الإبداعية بالكفاءة اللغوية اقترانا لا يمكن انتزاعهما، إذ تمثل الكفاءة الدرجة القصوى التي يصل لها الفرد في التعامل مع لغته الأساسية واستيعاب وتراكيبها وفهمها وتفكيكها بنظام النحو الخاص. وتشترط الذات المتكلمة وجود نشاط إبداعي حقيقي كي تنهض عبره الكفاءة اللغوية، فدور الفرد أن يقوم بإنتاج جمل جديدة وقدرته على تركيبها في مختبر اللغة ومن ثم خروجها بعددٍ غير محدود، إذ إن ارتباط الكفاءة بالكتابة هو في الأصل ارتباط كفاءة النص الضمني بالقواعد. 

لقد تناول الفيلسوف نعوم تشومسكيفي مفهوم الكفاءة اللغوية الذي أعده “ قدرة ابن اللغة على فهم تراكيب لغته وقواعدها وقدرته من الناحية النظرية، على أن يُركِّب ويفهم عددًا غير محدودٍ من الجُمل، ويُدرك الصَّواب منها أو الخطأ”، ولكن ينبغي أن تكون هناك علاقة قوية بين الكفاءة اللغوية والأداء اللغوي الذي يقوم الأخير بنقل هذه الكفاءة إلى الأداء الفعلي. 
لذا فإن دور الأداء اللغوي يتمثل بإخراج الجمل التي ننتجها فعلياً، كما يؤكد تشومسكي لفظًا أو كتابة، لأن تحقيقهما معا يشكلان علاقة السبب بالنتيجة.
ربما يجدر بنا هنا العودة للتذكير بأن تشومسكي يختلف مع العالم اللغوي فرديناند دي سوسير في مفهوم الكفاءة اللغوية والأداء اللغوي الذي يفسره الأخير باللسان باعتباره مخزونا لغويا في حين الأول ينظر إليه وفق القواعد الضمنية.
تنشأالكتابة الإبداعية عادة من الفكر المخبوء في ذات الكاتب.. الفكر الذي لا يمكن أن يطرحه إلا عند قدرته على استيعاب لغته بطريقتها الشمولية، وتمكنه من مزج التراكيب اللغوية بالمحسنات البديعية كالتشبيه والاستعارة والكناية، فالنص يرتقي بهذه المحسنات ويحسن وجهته اللفظية والمعنوية بتزيينها بلاغيا. 
ويلمح رائد تعليم التفكير الإبداعي في العالمدي بونو إلى أن التفكير الإبداعي هو “استكشاف الخبرة من أجل الوصول إلى الهدف الذي قد يكون الفهم والتخطيط واتخاذ القرار”. 
وهو محاولة لنفهم أن التفكير الإبداعي نشاطًا ذهنيًا يتحرك ضمن المداخلات الحسية ويخرج طبقا للمخزون المعرفي الذي يمتلكه الكاتب عبر عملية التأثير والتأثر، إذ يستخدم اللغة كأداةٍ اساسية في التعامل مع خبرته وتحريك الذات المتكلمة لتمثيلها لغويا، تحديدا حينما يتعرض العقل لإثارة حسية أو فكرية من منطلق أن الفكر الإبداعي، ما هو إلا سلسلة من النشاطات العقلية تتداخل مع الواقع بطريقة غير مرئية أو ملموسة لتنتج بفعل التفكير المرتبط بمدركات حسية نصا مكتوباً. 
وشغلت عملية التفكير موضع اهتمام الفلاسفة، حيث يذهب أفلاطون في القول إننا “ لا ندرك أي حقيقة بصدد أي شيء إلا من خلال التفكير”، فعملية التفكير الإبداعي تنشط من ضمن قدرات العقل على احتوائها، حين تتحرك عملية الادراك الحسي وممارسة التفكير على الدوام، كي ندرك ما يحدث في الواقع ونقله بطريقة مكتوبة. وحتى تكون الكتابة الإبداعية أكثر انجذابا للمتلقي ينبغي أن يحوي النص المعروض على أفكار مبتكرة وتزاوج مفردات تصيب المتلقي دهشة على ما هو موجود في النص. 
ويؤخذ دريدا من سوسور: “اللغة والكتابة نوعان مميزان من العلامات، وتوجد الكتابة لغرض وحيد، وهو تمثيل اللغة”،من هنا كان العمود الذي ترتكز عليه الكتابة الإبداعية هو فكر لا يمكن أن يتحرك إلا عن طريق المعرفة والخيال.
ولا شك أنّ هناك علاقة مترابطة بين المعرفة والخيال، فلا يمكن انتزاع أحدهما عند تحريك الفكر الإبداعي. فعندما نفترض أن المعرفة لم تكن موجودة، فإن هذا يعني أن الخيال لن يشق طريقه في رسم ما يريد من صور مهمتها تمثيل الواقع المحتمل والعكس صحيح.
فحينما يفتقد الفكر الإبداعي الخيال ويقتصر على المعرفة حينها تكون الصور المنقولة عبر محرك المعرفة بلا جمالية التخييل التي من شأنها أن تسمو بواسطة فعل المتخيل، إذ لا يمكن للمعرفة وحدها أن تقوم بتشغيل الجهاز اللغوي الذي يمتلكه الكاتب، ما لم يكن هناك فعل متخيل يحرص على أن يضع قالب معرفته بفلسفة الدهشة والخيال كما يصفه كولن ولسن هو “تكوين صورة عن شيء أو شخص ليس حاضرا بالفعل، أي أنه يهدف إلى تكوين نسخة ثانية، من واقع محتمل”.
الكتابة الإبداعية لا تدخل كمهنة، كونها نشاطا ذهنيا وتخيليا يمارسه الكاتب ويعيش عالمها الخاص وفق وقت معين، لأنها لا تدخل في دور الصناعة والحرفة.. هي تعبر عن خلجات دواخله وما يدور في مجتمعه لنقل الجو الذي يعيش فيه لغوياً. ولأن الكتابة نشاطا خياليا لذا فإنّ عليّه أن يكون بقدرة دائمة في امتلاكه لأدوات النص وجهازه اللغوي.. فالكتابة تطرق الباب فجأة من دون استئذان.وترتقي لمستوى الطموح، حتى تترك تسميتها على إنها هواية يقتات الكاتب عليها في وقت فراغه حين يدخل الشغف فيها وتؤخذ الدور الرئيس في تحريكها لأجل أن تبلغ سماتها في الساحة، كما أكد ابن خلدون بقوله إن “الكتابة هي من عداد الصنائع الإنسانية”.