وشنَّ الدهر غاراته على الشعراء

ثقافة 2020/11/18
...

حسين الصدر
 
- 1 -
لم يذق معظم الشعراء العرب على مدار التاريخ طعم الراحة والاستقرار، ولم ينعموا بأيّ لونٍ من ألوان البحبوحة والرخاء، ومن هنا كانت الكلمة الشائعة المعبرة عما لاقوه من الحرمان والفاقة هي:
" أدركته حرفة الادب ".
- 2 -
والذين استطاعوا أنْ يقتحموا أسوار قصور السلاطين وينالوا جوائزهم السخية ومنحهم الكبيرة هم الأقلون بالقياس الى الكمّ الهائل من الشعراء.
بينما صان الكثيرون أنفسهم من التسكع على ابواب السلاطين..
- 3 -
والمؤسف للغاية أنَّ فريقاً لا يستهان به من اولئك الشعراء اضطروا لاصطناع المدائح، ومع ذلك فقد خيّب الممدوحون ظنونهم، وضنوا عليهم بالمال، غير عائبين بمعاناتهم وما يقاسونه من أهوال..
لقد كتب ابن الحسام الذهبي (المتوفى سنة 749 هـ) - بعد أن ظل ينتظر صلة أحد الوزراء له ردحاً طويلاً - فلما طال الأمد ووهن الجلد قال:    
 يا سيدَ الوزراءِ دعوةَ قائلٍ
مِنْ بعدِ إفلاسٍ وبَيْعِ أثاثِ
أبطَتْ حوالتُكُم عليّ كأنها
تأتي إذا ما صِرتُ في الأجداثِ
فاذا أتتْ مِنْ بعد موتي فأحسنوا
بوصولها للأهل في ميراثي
ويبدو أنَّ ديدن السياسيين في ماضي العهود وحاضرها واحد..،
فالوعود معسولة ... ولكن الوفاء بها نادر 
- 4 -
وهناك من مدح فلّما مُنع هجا وأقذع
ومن الطريف في هذا الباب قول الشاعر:   
لئن أخطأتُ في مدحي
فما أخطأتَ في منعي
لقد انزلتُ حاجاتي
بوادٍ غيرِ ذي زَرْعِ
- 5 -
ومن الشعراء من صوّر لنا الدار التي كان يسكنها، وأطنب في وصفها كابن الأعمى (عليبن محمد المبارك المتوفى سنة 692 هـ) حيث قال يذم دار سكناه ويبالغ فيها:   
دارٌ سكنتُ بها أَقلُّ صفاتِها
أنْ تكثر الحســراتُ في حشراتِها
الخـيرُ عنـها نــازِحٌ متبـاعِدٌ 
والشـرُّ دانٍ مِـنْ جـمـيـعِ جــهاتـِــها
مِنْ بعضِ ما فيها البعوضُ عدمته
كَمْ أعدمَ الاجفانَ طيبَ سناتها
وتبيت تسعدها براغيثٌ متى
غنّـت لــها رقصــت على نغمـاتِـهـا
وبها ذباب كالضباب يسد عينَ
الشمسِ ما طربى سـوى غنـاتـِها
اينَ الصـوارمُ والقـنا مِنْ فتـكِها
فيـنا وأيـنَ الأُسـدُ مِنْ وثـباتـِـها
وبها خفافـيش تطـير نـهـارهـا
مــع ليلـها ليسـتْ علـى عـاداتِها
وبها من الجرذان ما قد قصرت
عنه العتاق الجرد في حـملاتـِهـا
وبنات وردانٍ واشكال لها
مما يفوتُ العينَ كُنْهُ ذواتِها
وبها قرادٌ لا اندمال لجرحها
لا يفعلُ المِشراطُ مثلَ أداتِها
ويستمر على هذه الشاكلة من الوصف الدقيق لما ضمته الدار من عجائب المخلوقات ...!!
ويترك لك المجال واسعاً لتشاركه الرأي بِعِظِمِ معاناتِه الكثيفة وصورها المرعبة المخيفة ...
- 6 -
ولا نلمس هذا المنحى في تصوير معاناة العيش في مثل تلك الدور الموحشة، والغرف البائسة، الاّ عند الشاعر الكبير المرحوم السيد احمد الصافي النجفي، حيث أنَّ الشعراء المعاصرين لم يُولوا أماكن سكناهم تلك الأهمية الكبيرة، وهي في الغالب لا تصل الى ماوصلت اليه دار الشاعر علي بن محمد المكنّى بابن الأعمى..
كتب الاستاذ الدكتور ابراهيم العاتي في كتابه الفريد عن الصافي النجفي الموسوم بـ (غربةالروح ووهج الابداع) - وهو أثمن ما كتب عن حياة الصافي النجفي وما حفلت به منأطوار وأسرار- يقول:  
وكان جزء من حساسية الصافي بالمكان هو وصفه الساخر للدور والغرف الباردة التي ينتقلاليها حين الآخر، كما يقول في قصيدة (دار باردة): 
يا ربَّ دارٍ بردها قارصٌ/ كأنّ فيها آبَ آذارُ
كأنّ أهلَ الخلد زوّارُها/ عليهمُ حرّمتِ النارُ/ لم يجلس الناس بها رغبةً/ بل جمدوا منها فما ساروا/ كفّرَ حبُّ النارِ سكانَها/ فمؤمنوها اليوم كُفّارُ/ تذكروا الصيف لِكَيْ يدفؤوا/ لو يُدفئ المبرادَ تذكارُ/ مَنْ جاءها يحسد مَنْ لم يجئْ وتحسد البابَ بها الدارُ/ فرحمة الله على فارِها/ اذ ماتَ مِنْ بَرْدٍ بها الفارُ/ نعم لقد مات الفار من البرد، ولكنّ الصافي تحمّل شدة ذلك البرد القارس، وآثر ان يسكن في مثل تلك الدار، وينأى بنفسه عن الاتصال بذوي الأموال والثراء، لأنه يربأ بنفسه وبالشعران يكون بضاعة تستدر بها الأموال ...
وهذا اللون من الإباء والشمم، هو ما قفز بالصافي الى روابي المجد العالية.
اسمعه يقول:    
إذا الارض بي ضاقت سموتُ عن الأرضِ
وأرفضُ خفض العيش اذ يقتضي خفضي
وآكلُ من جسمي إذا افتقرت يدي
وهيهات يوم الجوع آكلُ مِنْ عرضي
(غربة الروح ص 22)
رحم الله الصافي الكبير،
وحفظ الدكتور ابراهيم العاتي الذي كابد معاناة البحث والمتابعة، وهو يعد دراسته الضافية عن واحد من أكبر شعراء العربية، وجزاه عنا خير جزاء المبدعين المعنيين بكبار رجالالعلم والأدب والثقافة.     
(راجع غربة الروح ووهج الابداع ص 51- 52)