ياسر العظمة في مرايا دمشق

الصفحة الاخيرة 2020/11/21
...

  د عواطف نعيم
 
والحق يقال أنا لا أعرف ياسر العظمة شخصياً ولم ألتقه في حياتي رغم تعدد زياراتي الى دمشق الياسمين ولقائي بالعديد من فنانيها وفناناتها ولا سيما خلال مهرجان دمشق المسرحي الذي بدأ ثم توقف ثم عاد الى واجهة الثقافة والفن العربية في العام 2004، ومهرجان دمشق يعد واحداً من أهم المهرجانات العربيَّة تنظيماً وتأثيراً وحضوراً للفن المسرحي لكن تقلبات الحال لم تبق كل ما تم تأسيسه ثابتاً.
لم ألتق هذا الفنان في تلك التظاهرات الفنيَّة العربيَّة التي احتضنتها سوريا، مع أني كنت أسمع عنه وكنت أشاهده عبر برنامجه (مرايا) وهو دراما نقديَّة ساخرة تقدم من خلالها موضوعات اجتماعيَّة مختلفة تتناول ظواهر ومشكلات تسلط عليها الضوء نقدياً بأسلوب كوميدي ساخر، كان الفنان السوري العظمة هو الشخصية الرئيسة في كل حلقات هذا البرنامج الدرامي خلال مواسمه المتعددة والتي استمرت لفترة طويلة من الزمن، حين كانت الدراما السورية محلية ومحدودة الانتشار لكنَّ العظمة ومن خلال حضوره المتميز وقدراته المختبرة ومهاراته في تجسيد الشخصيات المختلفة استطاع أنْ يكوّن له أسماً ومكانة أدائيَّة تفرد بها عمن حوله من نجوم الدراما السوريَّة وفي هذا اللون الكوميدي الصعب والناجح.
في أغلب المواسم التي قدمها الفنان العظمة في برنامج (مرايا) الذي ارتبط به والذي جمع كتاباً مختلفين يتولون كتابة حلقاته ولعلَّ أبرزهم الكاتب الكبير (عبد الفتاح قليجي) كان العظمة يستعين بفنانين سوريين من كلا الجنسين ويتيح لهم الفرص لتقديم مواهبهم وتأكيد قدراتهم والذين أصبحوا في ما بعد ومن خلال انفتاح شركات الإنتاج الخليجي على الدراما السوريَّة ودعمها، لا سيما بعد توسع وسائل الاتصال الحديثة وانفتاح السموات السبع وتعملق السوشيال ميديا وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي أصبحوا نجوماً، بعضهم يتحكم بالدراما السوريَّة ويلج الى العربيَّة، انزوى وغاب لفترة ليست بالقصيرة هذا الفنان الفطري الجميل صاحب الحضور المؤثر والأقنعة المتعددة عند الأداء، وغابت عن سماء الدراما السورية مراياه؟ ولطالما تساءلت وتساءل غيري: أين ذهب هذا المبدع العربي ولماذا لا يكون له حضورٌ في الدراما السوريَّة على كثرة وتعدد المسلسلات الدراميَّة التي تنتج في سوريا بأموال سورية أو عربيَّة؟ ولماذا لا تتم الاستعانة به من قبل هؤلاء الفنانين الذين ظهروا وتكونوا وعرفوا من خلال وقوفهم الى جانبه في برنامجه (مرايا)، لا سيما أنَّ البعض منهم صارت له شركته الإنتاجيَّة الخاصة وعلاقاته الواسعة؟
لكنْ ذات السوشيال ميديا التي كرست لتلميع وإبراز البعض من الأسماء عادت لبث حلقات من المسلسل الدرامي (مرايا) والذي حظي بمتابعة كبيرة من المتلقين الذين ملّوا تكرار ذات الوجوه وتململوا من الدوران حول ذات الموضوعات التي يغلب عليها طابع العنف والتقليد للدراما التركيَّة والبرازيليَّة فوجدوا ضالتهم في متابعة البرامج الدراميَّة القديمة، لا سيما (مرايا) بما يقدمه من حكايا وكوميديا ومهارات أداء، وعلى ذات المواقع في السوشيال ميديا برز لنا الفنان الكبير ياسر العظمة بعد غياب ليس بالقصير عبر برنامج يحمل اسمه وينفرد في تقديمه وقناة يختص بها وحده، لنكتشف أنَّ هذا الفنان الذي كان يسهم مع الكتاب في وضع الرتوش الكتابية والثيم الدرامية في البرنامج الدرامي الذي يجسد شخصياته الرئيسة، لنكتشف أنه شاعر جميل النظم دقيق الاختيار ضليع في اللغة العربية وتجليات بحورها، ثم لنلمس في تلك الأبيات التي أجاد نظمها عتباً رقيقاً وحزناً شفيفاً، فهو يتحدث عن دمشق وعشقها وبين السطور تحس وجعه وخيبته أمام جحود ونكران من كان له الفضل في تعريف العالم بهم ولكنهم حين فاض المال بين قبضات أيديهم وطالتهم النعم تناسوا أساتذتهم وتمركزوا حول ذواتهم وكأنهم مركز الدراما ومرجعها!!
ليس من حقي أنْ ألومَ أو أعتبَ على أحدٍ، فهذا الجحود أمرٌ اعتدنا رؤيته ووجوده في كل مكان من أوطاننا العربية وذلك التهميش والإقصاء سلوكٌ سائدٌ لدى العديد من الأسماء الفنيَّة بيننا وحوالينا، لكنَّ الذي أنا واثقة منه أنَّ هناك مبدعين يتواصلون بالعطاء العنيد والإرادة الصلبة ولا يحنون رؤوسهم طلباً للمساعدة بل يفرضون حضورهم من خلال قدراتهم المتعددة ومواهبهم الأصيلة.
لا أعرف الفنان ياسر العظمة شخصياً لكني أحترمه وأفخر به فناناً قادراً على التنوع والتفرد في ما يقدم من أداء درامي جريء وملفت فيه كسرٌ للتحفظات وخروجٌ عن النمط وتنقلٌ متمكنٌ بين الحالات الشعوريَّة والحركيَّة للشخصيات المتعددة التي يجسدها.
تحية للفنان الكبير ياسر العظمة الذي يذكرنا بممثلين راسخين وكبار في فن الدراما ومؤسسين لها في العراق كالفنان الكبير يوسف العاني والفنان المبدع خليل شوقي في عفويَّة الأداء وتلقائيَّة التجسيد وذاك الحضور الساحر الذي يجبر المتلقين على التصفيق الحار ورمي باقات الورود تحت أقدامهم.