وصف العراق وأهله!

الصفحة الاخيرة 2020/11/23
...

جواد علي كسار
حصل ذلك قبل ست سنوات عندما كنت في رحلة معرفية إلى الجزائر، فقد كان ضمن برنامج الرحلة أنْ أُلقي كلمة في مدينة «ورقلة» التي تبعد (800) كم جنوب العاصمة الجزائر، فكانت المفاجأة في الطريقة التي قدّمني بها عريف 
الحفل.
مع أنَّ مديح العراق والثناء على العراقيين هو ثقافة مستدامة عند الجزائريين، كما لمستُ ذلك في محطات رحلتين إلى هذا البلد، إلا أنَّ ما فعله هذا العريف المفوّه والمثقف، هو شيء متميّز، فهو لم يلجأ إلى الارتجال في تقديمه، ومحض التوسّل بانشائيات فارغة، لا ينشأ عنها أكثر من كلمات جرداء، مجوّفة خالية من المعاني والدفء الإنساني، بل وجدته قد حضّر لما قاله نثراً وشعراً ومفاهيم ومقولات، قد أتعب نفسه بالعودة إلى مصادر أساسية، وإلى ما ذكرته مرجعيات تأريخية مهمة عن العراق و أهله.
لقد ذكر على سبيل المثال بأنّ العراق، هو: «سُرَّة الدنيا»، وأن أرضه: «صفوة الأرض» فيها: «محاسن جميع أهل الأقطار» وشدّد بنحو جليّ جاهر على أن من لم يرَ بغداد ويختلط بأهل العراق، فكأنه لم يرَ الدنيا، ولا رأى الناس.
لا أريد أن أغمط هذا الرجل الفاضل النبيل حقّه، لكني لست أذكر حقاً ما إذا كان قد نسب هذا الجزء من المديح للعراق والثناء على أهله، إلى صاحبه الخطيب البغدادي أم لا؟ وإن كان الأرجح عندي أنه قد ذكره.
كانت الكلمات تنهمر من هذا العريف المفوّه وتتدفق المعاني من احشائها، والمدهش أنه كان يفعل ذلك بلسان فصيح وبيان بليغ، وسط بلد تغلب عليه اللغة الفرنسية وتنافس العربية، فتزيحها غالباً لأن الجزائري يستسهل الحديث بالفرنسية، وحتى لو بدأ معك كلامه بالعربية فسرعان ما ينقلب إلى الفرنسية، لأنها أيسر له في إيصال المعاني.
دفعني تقديم أخينا الجزائري وثنائه على العراق والعراقيين، للعودة إلى الخطيب البغدادي أحمد بن علي (ت: 463هـ) تحديداً إلى الجزء الأوّل من موسوعته الاستثنائية المميّزة: «تأريخ بغداد أو مدينة السلام»، إذ يقوم مشروع البغدادي في هذه الموسوعة على ذكر ما يتّصل ببناء بغداد وتأسيسها، ومن نزل بها وعاش فيها من العلماء والكُبّار والسياسيين، بدءاً من الصحابة والتابعين منذ إنشائها حتى عصره، وبحسب تعبيره نصاً: «هذا كتاب: تأريخ مدينة السلام وخبر بنائها، وذكر كبراء نزّالها، وذكر وارديها وتسمية 
علمائها».
لقد قدّم البغدادي على طريق تحقيق هذا المشروع، ترجمة (7831) من المحدثين وأرباب العلوم والمعرفة، ورجالات المجتمع والدولة ممن عاشوا ببغداد أو زاروها.
وفي المقدمات التأسيسية للموسوعة عرض البغدادي لمناقب بغداد وفضلها، وذكر المأثور من محاسن أخلاق العراقيين، مما استشهد أخونا الجزائري ببعضه. ولو كنت مسؤولاً لعممت هذا اللون من المعرفة وسط العراقيين، وهم أمسّ ما يكونوا إليه حاجة في ظل حالات الادبار التي تكاد تحيط بهم من
كل جانب!