عيسى الياسري

الصفحة الاخيرة 2020/11/27
...

حسن العاني
مثل غصن مقطوع من شجرة، تلك كانت حاله وهو يفارق قريته في آخر لحظات الوداع.. تفيض في صدره عبرة، هل رأيتم عيسى الياسري إذا بكى، فليس بعد اليوم بستان ونهر وقن دجاج وخبز أمهات وبنات عم، بل هي الان في مرمى العين عاصمة الثقافة ودور السينما والنساء السافرات، كذلك كانت فكرته عن بغداد يوم قرر الانتماء اليها و.. ومضى العمر واستقر بك الحال شاعراً وصحفياً وزوجة من نسوان القبيلة.. طيبة و(حنينة) وتحسن الطبخ والطاعة والانجاب مع كل عام هجري جديد.. لكنها لا تجيد كتابة اسمها وتستحي من قلم الحمرة ولم تسمع بموانع الحمل !!.
كيف تواصل البقاء على قيد الحياة يا رجل، وراتبك دنانير معدودات، تبعث بعضاً منه الى القرية حيث استوطن المرض جسد امك التي ترفض السفر حتى الى الجنة، فسرّتها مزروعة مع فسيلة نخلة... وعلى البعض الاخر ان يفي بحاجات الاسرة والايجار والطبيب والملابس ومدارس الصغار... وما عاد ينفع والله شد الاحزمة على البطون، فوا حزني عليك أيها السيد الياسري وما بينك وبين نعمة السلطان و(تكريماته) ودنانيره، خطوة لا تكلفك الا كلمات مديح منافقة، تتغنى بها مرة في اليوم على مضض، وغيرك يلهج بها ثلاث وجبات، حتى طفحت خزانتهم بالذهب والمركبات والعطايا والمناصب.. لا شيء سوى انهم كسروا انوف اقلامهم الشامخة، وانت تأبى الا ان يبقى قلمك مرفوع الراس والصوت والهامة ...
ياعيسى كم ستقاوم والجوع هوية احوالك المدنية، وبكاء الصغار لا تسكته المبادئ... وا حزني عليك وانت (تفكر) ان تقصد حلقة الدراويش وضاربي الدفوف.. وما اكثرها مناسبات السلطان واعياده وايامه، فتنهال على عوزك حفنة دنانير بعد كل قصيدة او مقالة سلطانية، وتضحك وجوه الأطفال، لكن قلمك يمشي مطأطأ الرأس، كنت لا تزال تفكر وتتعثر خطواتك بالهوان.. نعم.. لا.. نعم.. لا.. آه يا ابن القرى العراقيات، ما كان عهد نفسك بنفسك ان تنتهي عوسجة ذليلة، وهي القمحة المسكونة بالخير والاباء...
ثم كان ما كان في اخر  الزمان، حيث تهاوى قصر السلطان، فما كان احدٌ اعظم سعادة من سعادتك... انك تتنفس ملذات الحرية، وتسترجع طعم الكرامة، وتباهي بتاريخك الذي لم تلوثه نزوة، وتأخذك أيام ثم تمضي بك شهور فتذوي رائحة الحرية امام اسرة تبتلع عافيتك، وزوجة لا تتوقف عن اغناء الخليقة بمواليد جدد، وأطفال يكبرون وتكبر حاجاتهم واحتياجاتهم و.. ومرة أخرى يعاشر الجوع دارك الخاوية، والصحب من حولك عرفوا الطريق الى موطن الدنانير و(بيت المال) كما عرفوها على عهد السلطان، انها يسيرة، قلبوا معادلة ( المدائح) الى ( لعنات)، جعلوا من سلطان الأمس الذي يشبه الملائكة شيطاناً ملعوناً.. واذا كان التغني بالملائكة ثمنه 20 مثقالاً من الفضة، فان لعنة الشيطان ثمنها 40 مثقالاً من الذهب و.. وانت تتفرج ومن حولك جوقة الدراويش تقول لك: يا رجل.. اذا كانت مدائح السلطان تقتضي مناسبات معلومة، فليس للشتائم يوم او موسم او مناسبة.. وتجوع وتجوع وتجوع.. ولكنك تبقى قمحة مسكونة
بالإباء ...