شعر جدتي

منصة 2020/12/06
...

  مهيرة هاني مقدادي
دخان جدي مختلف عن دخان والدي، فلجدي عبوة معدنيَّة تحوي تبغاً بنياً منثوراً، يشبه شعر جدتي المعجون بصبغة الحناء. أما علبة والدي فورقيَّة، تشبه تلك التي يدسها اخوتي تحت وسائدهم.
أذكر أني في محاولة مني لمساعدته طلبت منه، أكثر من مرة، أنْ يوكلَ إليَّ مهمة لعق أطراف الورق الرقيق بهدف إلصاقها كخطوة أخيرة لإنهاء عملية إعداد السيجارة. ولعلني كنت ألعقها أكثر من اللازم خوفاً من ألا تلتصق الأطراف بعضها ببعض، ما يذيب القطع الورقيَّة داخل فمي ليتسلل المذاق المر الى لساني، فأنتفض لكراهة مذاقه، محمرة الوجه، ويمتزج بعدها صوت سعلتي وضحكة جدي. 
- في كل يوم تصرين على ذلك ولا تثنيكِ مرارة الطعم عن المحاولة. إييييه يا صغيرتي لست أدري إنْ كنت ستعين كلامي الآن ولكن لا بُدَّ أنْ تعي يوماً أنَّ المرارة طعمٌ لا يمكن لنا أنْ نعتاده. 
تمتم بعد ذلك:
- إنَّ الجو حارٌ هذا اليوم. من الأفضل البدء بري النباتات الآن قبل أنْ تشتدَّ الحرارة فنحرم بذلك النبتة فرصة الاحتفاظ بالماء.
أدركت لاحقاً فوائد ري النباتات باكراً. لكني كنت أتساءل دائماً: كيف أدرك جدي ذلك وهو الذي لم يكن يوماً في المدرسة؟ 
وكيف لم يتعلم جارنا أبو طارق ذلك بالرغم من أنه كان مُعلماً؟
إنَّ تفسيري الوحيد الذي خلصت إليه في النهاية هو أنَّ جارنا لم يكن لديه جدي.
-إذهبي عزيزتي وابدأي بالنباتات على البلكونة وأنا سأبدأ بريحانة الصالة.
رغبت في دفعه لمزيدٍ من الكلام:
- لكن، جدي ما اسم هذه النبتة هنا؟ 
- ريحانة.
- والتي عندك في الصالة؟
-ريحانة أيضاً.
إنَّ كان الأمر كذلك فلم لم تكن الريحانتان معاً؟ 
شعرت بسعادة غامرة تسري في عروقي، إذ إني حصلت أخيراً على سؤال ستكون الإجابة عنه فاتحة لسيلٍ آخر من الأسئلة لا تنتهي أبداً.
-وهل يجوز أنْ نبعد الريحانة الصغيرة عن أمها؟ 
- ومن قال إنها أمها!
- أوليست هذه الريحانة أصغر من تلك؟ إذا لا بُدَّ أنْ تكون تلك أم هذه.
- لو حاولت تفسير الأمر لكِ فهل ستدركين الأمر؟
قال لي ذلك بعد أنْ اقترب من وجهي ونظر مباشرة الى عيني وكان قد أحنى ظهره ليصبح ارتفاع جسده بمستوى ارتفاع جسدي.
- إنَّ لك عينين إذا بقي بريق شغف 
المعرفة فيهما من دون أنْ يعكر صفوه وإصراره شيء فلا بُدَّ أنْ تدركي ما سأقول الآن..
جلس على كرسي في الصالة وأقعدني على فخذه، اتكأ رأسي على صدره، وكلٌ منا ينظر الى الفضاء الرحب الذي يبدأ من باب البلكونة ويمتد الى ما لا نهاية.
تحتاج النبتة الى الشمس لتنمو وقد تقتل الشمس النبتة أيضاً وكذلك المطر والهواء. كما أنَّ الحدود التي تفصل بين المفيد والضار في الشيء الواحد تختلف باختلاف المتلقي لهذا الشيء.
في الكون أمورٌ صغيرتي نحتاجها وتقتلنا، وتحتاجنا ونقتلها.
شعرت أنَّ الأمور بدأت تزداد صعوبة وأنَّ سؤالي الأول لن يقودني إلا إلى صمت يحجب أي سؤال آخر.
اكتفيت عندها بمراقبة السحب المنبعثة من بين شفتيه والتي تحمل إليَّ رائحة الكهولة التعبة, وبمحاولات عبثية لالتقاطها بيدي اللتين كل ما استطاعتا فعله, الولوج بين تكوينات السحب السجائريَّة.
رحم الله جدي، فقد أحب سجائره التي كانت تذكره بشعر جدتي المحنى، لكنها قتلته!