كسر الثنائيات!

الصفحة الاخيرة 2020/12/07
...

جواد علي كسار
أتابع ما يكتب وأستفيد منه منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، تعجبني قدرته على تفكيك الثنائيات التي سكنت الفكر العربي مثل «أصالة ومعاصرة»،  «تراث وحداثة»، «ديني ومدني»،«إسلامي وعلماني»، «عقلاني ونصوصي» إلى غير ذلك مما استوطن الكثير من خرائط الفكر العربي والإسلامي، وساد البارز من اتجاهاته.
منذ كتابه الأول الذي قرأته له: «اشكالية المرجع في الفكر العربي المعاصر» وأنا أرصد قدرته على تفكيك هذه الثنائيات، بما تنطوي عليه من إقصاء وغمط واختزال للواقع، وبث لشحنات مكثّفة من البغضاء والتناحر والسلبية، وهو يفعل ذلك بنفس ايجابي، وروح حريصة، تفضّل التراكم واقتناص الايجابيات أينما كانت، وبعث الأمل في النفوس، بإمكانية تغيير الواقع عملياً، والانتقال إلى الأفضل، ضمن خريطة بلدان العالم العربي والإسلامي، هذا هو المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز.
قادني شاغلٌ بحثيّ عن الدولة، إلى مقدّمة الطبعة الرابعة من كتابه المرجعي: «الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر» فوجدتُ في هذه المقدّمة القيّمة، إلتقاءً معه في القناعة، بأن بواكير العمل الإسلامي التي سادت نهضة العرب والمسلمين حديثاً، بعد ما أسماها أدونيس «صدمة الحداثة» اتسمت بالإصلاحية؛ هذه الإصلاحية التي انطلقت في دنيا المسلمين، وهي تتبنّى سياسياً الدولة الوطنية وسيادتها، وتُشرعن للدستور والانتخابات والشورى، وتُنتج فكراً عميقاً بنزعة عقلانية برهانية منفتحة على معطيات العقل الإنساني، لتجعل شاغلها فكرة الرقيّ والتقدّم، ومحور عملها مواجهة التخلف والانحطاط والقضاء على أسبابهما.
هكذا كان الأمر مع أوائل رواد هذه الإصلاحية، كما نقرأها في فكر الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وابن باديس والنائيني.
لكن تغيّراً طرأ على المسار قاد إلى انكفاء الإصلاحية لصالح الحركية التغييرية، ما أدّى إلى انقلاب كامل في أركان المشهد، بدايات القرن العشرين، تحديداً مع تأسيس الأخوان المسلمين عام 1928م. فمع هذه الانعطافة، تراجعت الدولة الوطنية لصالح أطروحة الدولة السلطانية، متمثلة بالخلافة العامة والدولة الإسلامية العالمية، لتتوارى إلى الخلف قضية التقدّم والحرية الفكرية لصالح تطبيق الشريعة.
وباكتساح الدعوة العالمية للدولة الوطنية وحلولها محلها، شهد الإنتاج المعرفي انقلاباً في الميزان، من الفكر والإنتاج المعرفي العقلاني، إلى أدبيات الدعوة، قبل أن تنكفئ هذه الأخيرة، لتحسر الإنتاج المعرفي بالفتوى وأدب الجهاد وحدهما، بما تضمناه من تكفير، مع التحوّل إلى السلفية الجهادية، حتى لم يعد الفكرُ فكراً بل أدباً حزبياً قتالياً، على حدّ تعبير بلقزيز.
الكتاب بمقدّمتَيْه هو دعوة للعودة إلى الإصلاحية، ليس فقط لأنها هي الأصل؛ بل لأنها قارب النجاة للجميع!