طبيب القرية!

الصفحة الاخيرة 2020/12/08
...

حسن العاني 
قبل 55 سنة بالتمام والكمال، وهو العام الأول لتعييني معلماً كان عليّ مغادرة منزلي عند الساعة الخامسة فجراً – وهكذا يفعل زملائي الاخرون – لكي نلحق بالدوام الرسمي في الساعة الثامنة صباحاً، ثلاث ساعات يستغرقها الطريق ليس بسبب الزحام وانما لبعد المكان، فقد كان الامر بالنسبة لي مثلاً أن اخرج من بيتي في حي السلام( الطوبچي)، متوجهاً الى (ساحة الطيران)، حيث يكون تجمع المعلمين في مقهى مقابلة للكنيسة، ومن الساحة تأتي سيارة ( خط خاص بنا وعلى حسابنا )، لتعبر بنا جسر ديالى القديم، حيث نلتقي في أحد المقاهي بانتظار سيارة أخرى ( خط كذلك) تنقلنا الى مدرستنا (النهروان) على مبعدة (70) كيلو متراً تقريباً.
ولان هذه المدرسة القروية تكلفني كل يوم (6) ساعات لحساب الطريق، ولأنها تغلق ابوابها بضعة أيام بعد كل زخة مطرية قوية، ولأنني اتولى تدريس اللغة الإنكليزية، ولا بد من اكمال المنهج الدراسي خاصة لتلامذة الصف السادس، حيث امتحانات البكالوريا، فقد قررت المبيت في المدرسة التي يجاورها بيت (الفراش) وبيت ( الحارس)، ولعل العام الدراسي الذي امضيته، كان عاماً استثنائياً في حياتي، فقد كنت ابدأ بالقراءة ومحاولة الكتابة الأدبية المتواضعة، من الثامنة مساء حتى الرابعة بعد منتصف الليل على ضوء الفانوس!.
اعتقد ان حكومة المركز في تلك الاثناء (1965/ 1966) كانت مطالبة اخلاقياً في رفع تمثال نصفي لحسن العاني عند مدخل القرية، تثميناً للجهود الطبية والإنسانية  التي قدمتها متطوعاً للناس، فقد حرصت طوال مدة مكوثي هناك على تعليم تلامذتي وسكان القرية على استعمال وسائل بسيطة لتعقيم مياه الشرب وتنقيتها، لأن مصدر الماء الوحيد عندهم سواء للشرب ام الطبخ والغسيل هو الساقية مباشرة، وحرصت بالمقابل على افتتاح صيدلية صغيرة في غرفة نومي، وفرت لها المسموح به من العلاجات كمراهم الحروق البسيطة والقطن والشاش واقراص الصداع والزكام والحموضة والامساك وآلام الاسنان وبعض الادوية الأخرى بتوجيه من صديق صيدلاني، هذا غير اقتنائي لمحرار وجهاز قياس الضغط، وكنت اقدم خدماتي واقراصي وعلاجاتي بالمجان، ولكون القرية تفتقر الى اية مؤسسة صحية، فقد أصبحت انا طبيب القرية وغيرت الناس عنواني وباتت تناديني (دكتور) بدلاً من ( ستاد!).
 ذات ليلة شتائية باردة، وانا متمدد في سريري، ومنهمك بقراءة دروب الحرية لسارتر وقد قاربت الساعة من الثانية بعد منتصف الليل، طرق حارس المدرسة باب غرفتي، وحين فتحت الباب رأيت معه رجلاً وامرأة وهم يرجونني بتوسل أن أرافقهم الى احد بيوت القرية، لان هناك امرأة تعاني من عسر الولادة، وقد اعتذرت بشدة وطلبت منهم نقلها الى المستشفى بسرعة، ومنذ تلك اللحظة توقفت عن أداء وظيفتي الإنسانية، مخافة ان تغير الناس عنواني هذه المرة من الدكتور الى دكتورة!.