جواد علي كسار
لن تكون هيّنة حصيلة رجل يذكر بأنه زار أزيد من (150) بلداً، وأمضى في سمائها أكثر من مليون كيلو متر، وستزداد هذه التجربة ثراءً، إذا أضفنا إليها، أن الرجل قام بهذه الرحلات، من واقع كونه دبلوماسياً بارزاً في بلده، تحوّل من سفير إلى وزير لخارجية بلده لمدّة اثنين وعشرين عاماً، وبعدها نائباً للرئيس حتى عام 2014م، هذه باختصار قصة فاروق الشرع، التي لم تضع هدراً، على الأقلّ بعد أن حفظ شيئاً مهمّاً من تجاربها، في كتاب مذكراته الذي صدر بخمسمئة صفحة، بعنوان: «الرواية المفقودة».
لقد قرأتُ هذه المذكرات بشغف مضاعف قبل مدّة؛ مرّة حبّاً بالمذكرات والتجارب الكبيرة التي تكتنزها، ومرّة أخرى سدّاً لفراغ نُقاسيه في الساحة العراقية، يتمثل بغياب هذه الثقافة عن سياسييّ بلدنا، الغابر منهم واللاحق، عدا استثناءات قليلة، والاستثناء لا يُقاس عليه!
مصادفة معيّنة أعادتني إلى مذكرات الشرع هذه الأيام، فركزت كما في السابق، على الفصلين المختصين بالعراق. أعتقد أنهما يتضمنان أهمية خاصة، لا تتمثل بالمعلومات والحوادث الموثّقة وحدها، بل بما توفّره المادّة الموجودة، من مكاشفات عميقة عن التكوين النفسي لكبار أصحاب القرار في العراق والمنطقة، والدوافع السيكولوجية وراء مواقف كان لها تأثير خطير في مصير هذه البلدان، وحياة الملايين.
على سبيل المثال يذكر الشرع، أن الملك حسين تحوّل من مشجّع للحرب العراقية – الإيرانية، إلى أشدّ السعاة لإيقافها منتصف الثمانينيات. قام في هذا السبيل بإصلاح علاقاته مع دمشق، والتقى بالأسد مع نهاية عام 1986م ما لا يقلّ عن ستّ مرّات، في العام 1987م بلغت تسعة لقاءات، المحور فيها جميعاً هو إيقاف الحرب.
بمثابرة معروفة عنه وجَلَد، سعى الملك حسين للمصالحة بين صدام والأسد، كي يكون ذلك مفتاحاً ليس لإيقاف الحرب المستعرة مع إيران وحسب، بل لقلب ميزان القوّة في المنطقة، عبر مرتكز ثلاثي جديد، تمثله العراق وسوريا والأردن.
كان مفتاح المصالحة هو لقاء سرّي خاص نجح حسين بعقده ورعايته، بين صدام حسين وحافظ الأسد. دام اللقاء (11) ساعة بجلستين، وقد بلغ من الحرص على سريته، أن الملك حسين كان يوصل المأكولات بنفسه، إلى الرئيسين من خلف الباب، بعد أن تركهما وحدهما في غرفة منفردة.
فشل اللقاء لإصرار صدام على أنْ تكون البداية، إدانة سورية علنية لإيران، على حين اختار الأسد إعلان الاتحاد بين البلدين كمنطلق، ليشكّل مشروع الوحدة رسالة قوية لإيران لتوقف الحرب، ضمن تفكيره الاستراتيجي المرن، القائم على معادلة رابح – رابح للجميع؛ للعراق وسوريا والأردن وإيران، ودول الخليج.
رغم فشل الاجتماع اتفق الرئيسان على استمرار الدبلوماسية السرية، لكن على مستوى وزراء الخارجية. ما أدّى إلى مجموعة لقاءات تمّت بالفعل بين فاروق الشرع وطارق عزيز، جرت في الأردن، وبعد انتهاء الحرب في موسكو وفشلت أيضاً، لتفاصيل غاية في الدقة يرويها صاحب كتاب «الرواية المفقودة» من المهم جداً العودة إليها مباشرة!