حازت القصيدة التشكيلية (البصرية) على اهتمام فائق من لدن شعراء الحداثة، لكونها ترتقي بالمعطى الكتابي من ناحية المضمون والبعد الجمالي، إذ يستطيع المبدع أن يضفي على فضاء النص الشعري بعض الأبعاد الجديدة، التي تمكنه من استغلال الإمكانات التعبيرية للغة المكتوبة بالتقنيات الحديثة، بمعنى إدماج بنيات سيميائية غير لغوية في الخطاب الشعري، مما يرفد المضمون بقدر أزيد من الرمزيات وأوفى من الدلالات.
ولا يمكن لهذا النزوع الإبداعي أن يمر من دون أن يؤدي لانعكاس بليغ في معطى تحفيز المتلقي للتأمل، الذي يقوده نحو التأويل، وفي المحصلة يصب في تعدد القراءات واتساع عملية التلقي.
يمكننا أن نكتشف عبر النظرة التأمّلية نحو مداليل العناصر التكوينية في القصيدة التشكيلية، الموجهة نحو التلقي البصري بأن هذه النزعة الحديثة تنطوي على هواجس الخروج من مألوفية سياقات القصيدة الشعرية التقليدية المتمركزة حول التلقي السمعي. “إذ لم تعد القصيدة الحديثة مجرد ألفاظ أو كلمات موجهة للتلقي السماعي فقط، بل أصبحت تشمل أيضا مظاهر الإخراج الفني على غرار حجم الخط ونوعية الورق المستعمل في الكتابة، فضلاً عن بقية التقنيات الطباعية الموظفة في تنظيم الصفحة والغلاف عبر تركيب العلامات البصرية، العناوين، الصور، الرسوم، الألوان”. وبهذا تحوز القصيدة الشعرية على محمولات حافلة “بالعديد من الدلالات التي تعجز اللغة العادية عن الافصاح عنها وبلورتها للمتلقي».
يعدُّ جبَّار الكوَّاز من أوائل الشعراء العراقيين الذين اتخذوا وجهة الاشتغال في منحى التشكيل البصري، مدخلاً نحو التجديد الشعري الحديث، فقد انبنى ديوانه المعنون (ورقة الحلة) 2002، على نصوص شعرية تعتمد على التشكيل البصري، وهي محاولة متميزة، دالة على تطور رؤية الشاعر الإبداعية، والمنعكسة بلا أدنى شك على اشتغالاته من ناحية الصياغة الفنية وأسلوب تعامله مع اللغة.
المثير الذي يمكن أن نرصده بلا عناء في جميع نصوص الديوان، هو نزوع الشاعر إلى التحرر من قيود الكتابة التقليدية، وأنه قد انبرى للاستعانة بمختلف العلامات البصرية من أدوات الكتابة وآليات التشكيل، من أمثال: العتبات النصية والخطوط والأشكال الهندسية وعلامات الترقيم وتقسيم الصفحة والبياضات والهوامش، وذلك لأن “الشكل الشعري السابق على النص والمفروض عليه يمارس سطوة ما على المضمون، بشكل وآخر، أما التشكيل البصري فهو توليد طارئ وابتكار، يحد من صرامة تلك السطوة، لكونه ينبع من المضمون ويرفده».
انتقلت نصوص (ورقة الحلة) من إبداع شعري معتمد على الأدوات الصوتية في الأداء الشفوي، التي تقوم بتحويل المكتوب الى منطوق لغرض توصيله للمتلقي، بحيث تستقبله حاسة السمع، الى ابداع شعري ينطوي على تمظهرات بصرية، تحمل مرموزات وتشكيلات عديدة لا يمكن أن تتجلى إلا عبر حاسة السمع والبصر، وبذا يكتسب المكتوب على منوال هذا “التشكيل أحقية وصفه بالتشكيل البصري، الذي يحمل دعوة للمتلقي لكي يفتح آفاق الرؤية على مستوى البصر/ العين والبصيرة/ الخيال».
ولا بدَّ لنا من تبيان الفارق بين ثقافة الأذن والعين، من حيث أن “ثقافة السمع/ الصوت مرتبطة بالطاعة، وهي ثقافة تتمثل الطابع التسلطي، وتجسد سمات الوثوقية والتقليد، في حين أن ثقافة البصر/ الأثر مرتبطة بالعقل، ومتسقة مع خصائص العين في تعدد منظوراتها واختلاف زوايا نظرها، فهي ثقافة تقبل التأويلات المختلفة، وتكون ذات آفاق واسعة نقدية”.
وتالياً تتبدى المقاربة من هذا التمايز بين الثقافتين لدى المتلقي وضوحاً لافتاً “وتمييزاً مفيداً بين المخيلة المقيدة والمخيلة الحرة”. وهكذا يتكشف لنا بأن جنوح الشاعر الى التشكيل البصري ينطوي على تخليق فضاء شعري جديد، يمنح النص طاقة اضافية، ويضاعف ممكنات التعبير عن المعاني وانتاج الدلالات، التي تتفوق على القدرة المتحققة من اللغة وحدها، ترتدي نصوص «ورقة الحلة» شكلاً لافتاً على نحو من الابتكار، خارج ما هو تقليدي ومألوف، من حيث تكوين التشكيلات البصرية المؤلفة من متن مصاغ تحت كل عنوان فرعي، وكل واحد من هذه العنوانات بمثابة أيقونة مكتوبة باللون الأبيض وسط مستطيل أسود. المعروف أن للون قدرة تأثير على انفعالات الإنسان وعواطفه، وكأن الشاعر عبر تعالق اللغة مع اللون، والأسود مع الأبيض، يريد أن يلفت انتباه المتلقي لثريا النص، ويرمي إلى رسم أفق بواسطة هذه العلامات البصرية اللافتة التي تضفي على النص متعة جمالية، بالاتساق مع وظيفتها الدلالية، وما تحمله من معنى.
هناك إلى جانب كل عنوان أو تحته هامش وسط شكل هندسي معين، مرتسم بأبعاد مختلفة على هيئة مستطيل أو مربع أو دائرة، وغيرها، والشكل الهندسي من العلامات التي تعمق المعاني الجمالية، وفضاء الهامش مبتنى بكلمات تارة، ويبقى فراغاً بدونها تارة أخرى، وربما سبب تركه بياضاً هكذا بلا كلمات لم يكن مظهراً عفوياً ولا بريئاً، بل بقصدية جعل مهمة كتابته على عاتق المتلقي.
يقدم الشاعر شكلاً شعرياً جديداً، تنبثق من أعماقه الدهشة والتشويق والجمال، فضلاً عن الرؤيا الجديدة والصياغة المتجددة، يمكننا أن نستشهد على هذا الشكل المبتكر من خلال نص بعنوان (ساعة البلدية) ص38، متكون من ست كلمات ودائرتين يربط بينهما خط عرضي، متوزع بين جناحين، هما المتن والهامش،
وقد جعل الشاعر حضور هذه الثنائية على نحو من العلاقة المتوازية، محققاً التآزر الذي يعمل على توسيع المعنى، ويفيد الاكتمال.