تجوال في عالم السحر.. نظريات وآراء

فلكلور 2020/12/23
...

 باسم عبد الحميد حمودي

عالم السحر عالمٌ غامضٌ يهابُ كثيرون الخوض فيه، ويستهوي كثيرات وكثيرين، لكنه وفي كل رفضه وقبوله يحتاج فهمه الى صبرٍ وتتبعٍ لا دخل للعواطف المسبقة فيه.
أحدث كتاب عن السحر ألَّفه الباحث حسين علي الجبوري تحت عنوان (كوميديا السحر) وفيه تفاصيل كثيرة عن هذا العالم الغريب في بابه، عبر الكتابات القديمة عن السحر عراقياً وعربياً وعالمياً، مؤطرة بجهد الباحث الجبوري الكبير وفي الفصول التي قدمها للإحاطة بهذا العالم، ومنها ما ذكره عن زواج السعلاة - وهي من نساء الجان التي تتوافر عند شواطئ الأنهار-، وقد أورد أخباراً كثيرة في هذا الباب.
من هذه الأخبار ما نقله الباحث عن الدكتورعبد الكاظم عبد الكريم – من أهالي المسيب- عن (عبود) الذي عشقته سعلاة تقيم عند شط المسيب (وأخذته الى بيتها داخل الماء وعاشرته معاشرة الأزواج.. ثم أعادته الى البر ومنحته قدرة شفاء الناس من مرض الفقرات). وينقل الجبوري عن الباحث طلال سالم الحديثي حكاية رجل يدعى أحمد البروانة الذي كان رجلاً كريماً منح السعلاة الكثير الى وفاته وحيث بكت عليه حين مات وأنشدت:
 
تبجي حديثة وعانة على أحمد البروانه
لمعيش السعلوة ع الحنيني ورغفانه
وينقل الباحث الجبوري تفاصيل كثيرة عن علاقات الجان بالبشر وزواجهم منهم في عددٍ من المدن والأمصار العراقيَّة وسواها.
من هنا يتضح أنَّ لعبة عادل إمام الدراميَّة لم تلد من فراغ، بل من الموروث الشعبي في كل مكان.
 
باب الطلسم
في الجانب الشرقي من بغداد وعند طريق محمدالقاسم السريع يرى المار معلماً أثرياً هو جزءٌ من واحد من أبواب بغداد وهو باب الحلبة أو باب الطلسم، والطلسم لغة عند بهاء الدين العاملي في كتابه (الكشكول) هو لفظ يوناني ومعناه (عقدة لا تحل) أو هو كناية عن مقلوب في السحر، وباب الطلسم هذا هو باب مسحور في عرف العثمانيين الذين عقدوا عليه طلسماً على هيئة تمثال صغير لرجل يحمل ثعبانين مسحورين حماية لما في الباب من أسلحة، وقد فجر العثمانيون مكان الأسلحة بالبارود الموجود بالباب يوم خروجهم من بغداد في 11/ 3/ 1917 لئلا تقع بيد الانكليز ولم يستطع الطلسم شيئاً.
يقول عبد الحميد العلوجي في كتابه عن (الزوج المربوط) ص22 إنَّ (الطلسم هو العمل الذي يقوم به الساحر بمساعدة الشيطان أو بناءً على أمره على الورق أو القماش أو المعدن أو الخشب أو المعجون كالشمع والطين بشكلٍ مخصوص) لتحقيق ضررٍ معينٍ.
وفي راينا أنَّ الطلسم – في عرف السحرة – قد يكون معمولاً لحفظ الشيء أو الإنسان أو إحداث ضرر فيه وطلسم باب الحلبة عمل من أجل صيانته وحفظه.. في عرف السحرة.
 
السحر عند أقوام شتى
لا سبيل شخصياً للإيمان بكل هذه الأخبار، لكنَّ السحر يقوم الإيمان به لدى الشعوب على التأكيد أنه جزءٌ من الحياة الطبيعيَّة لعددٍ من الشعوب.
وتروي الباحثة الأميركيَّة (روث بندكت) في كتابها (ألوان من ثقافات الشعوب) عن قبيلة الموجاف الافريقية الجنوبيَّة أنَّ مواطنيها يعتقدون أنَّ من واجبات طبيب القبيلة الساحر أنْ يقتل الناس، مثلما يقتل الصقر صغار الطير ليجعلها طعاماً له.
تقول بندكت إنَّ "قبائل (الدوبو) التي تسكن جزيرة ضمن جزر (دانتور كاستو) القريبة من الساحل الجنوبي لشرقي غينيا الجديدة لا رؤساء لهم وليس لديهم في قراهم سوى معاداة البشر الآخرين والشك بهم. تضم كل قرية من قرى الدوبو مجموعة قليلة من الناس، ولهم طقوسهم الخاصَّة في الدخول الى قراهم والخروج منها، وفي كل ذهاب ومجيء تتلى رقية أو تعزيمة لدفع الشرور، وكذلك عند الحرب والزواج والسفر ،وعند زراعة البطاطا.
والدوبو (في اعتقادهم) يجزمون ألا نتيجة ترجى في أي ميدان في الحياة من غير سحر.
 
السحر والحياة 
خارج المجتمع البدائي
الحدود بين النظامين السحري والحياتي في المجتمعات البدائيَّة حدودٌ متداخلة، فما يعدُّ سحراً خارجاً عن المألوف لدينا هو مجرد جزءٍ من النظام الكوني الذي يحكم البشر في تلك المجتمعات، وللساحر دوره المهم اجتماعياً لديهم، فهو الطبيب المعالج وهو الكاشف عن المستقبل وهو مستشار الحرب وصارع الأمراض... بالرقى والتعازيم.
يقول الدكتور محيي الدين صابر في دراسته عن مجتمع الازاندي في السودان الجنوبي، وما جاوره: إنَّ "السحر لديهم يتجه أساساً الى الجماعات الخارجيَّة والدين الى الجماعات الداخليَّة".
 
سحر أكلة لحوم العدو
إنَّ منطقة (نيام نيام) هي منطقة القبائل المتهمة قديماً بأكل لحوم البشر من الأعداء، وهي منطقة الازاندي نفسها، ويكشف الدكتور صابر عن أنَّ موضوع أكلة لحوم البشر: "كان يتم قديماً وبصورة محدودة، وذلك للقسوة التي يرتكبها المهاجمون بحق المعتدى عليهم، لذا يكون العقاب وحشياً أيضاً بالحدود التي نفهمها نحن وهم يعدونها مجرد (عقوبة) للعدو المهاجم، وقد انتهت هذه بتدخل الحكم البريطاني أيام احتلاله للسودان قبل استقلاله".
منطقة الازاندي تقع في نقطة تلاقي ثلاث دول في وسط أفريقيا، هي جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وزائير.
السحر عندهم يسمى (المانقو)، ويأتي من العراف أو الساحر وهو يأتي من العين الشريرة التي تهدد أمن الناس وحياتهم.
 
مصادر السحر
يأتي السحر أيضاً عند الزاندي من مصادر ثلاثة، من الإنسان المشتغل بالسحر أو يملك العين الشريرة الحاسدة ويسمى هنا (المانقو)، ومن الحيوان المسحور ويسمى (الأدندالا)، فضلاً عن الخصائص السحريَّة في بعض النباتات وتسمى (أنقوا)، ولكل نوع وظيفة، والنوعان الإنساني والحيواني وظيفتهما عدوانية، أما وظيفة الأعشاب السحريَّة فتتغير تبعاً لرغبات الساحر أو العراف.
 
طبقات السحرة
يعيش السحرة في مجتمع الازاندي نسبة للطبقة التي ينتمون إليها وهذه الطبقات هي:
1 - المانقو: وهم الأطباء السحرة ذوو العيون الشريرة، لكنهم يطوعون شرورهم (على وفق المعتقد الشعبي الزاندي) بالرقص والكلام الحر الذي يصل بهم الى حد الهذر، وهم الذين يقرؤون الفال ويتنبؤون بالمستقبل.
2 - أصحاب الترياق: وهم مالكو الأعشاب السحريَّة ومستخدموها لمساعدة قومهم.
3 -  العرافون: وهم الذين يعرفون أسرار النباتات السحريَّة ويستخدمونها للرقى والتعاويذ.
 
تايلر والأرواح
من العلماء الذن درسوا المجتمعات القبليَّة البدائيَّة البروفيسور تايلر وقد وضع نظريته الخاصة بالقول: إنَّ هذه المجتمعات تتألف من شطرين هما:
1 - الاعتقاد بأرواح الكائنات الحيَّة الفرديَّة التي تتسم بالقدرة على الاحتفاظ بوجودها الحيوي المستمر بعد الموت وفناء الجسد.
2 -  الاعتقاد بالأرواح الأخرى التي تتدرج في قوتها حتى تصل الى أرواح القوى الغيبيَّة فوق الطبيعيَّة.
وترى الجماعات البدائية أنَّ هذه القوى - على اختلاف أنواعها - تتحكم في مسيرة العالم وحياة الإنسان وفي حياة ما بعد الموت، لذلك فهم يسعون لإرضاء هذه القوى بالسحر والكهانة.
 
للرز روحٌ أيضاً!
ويرى البدائيون أنَّ للحيوان والنبات أرواحاً، بل إنَّ قبيلة (سو) الأميركيَّة الهنديَّة تعتقد أنَّ البشر يملكون أربع أرواح، وأنَّ الدببة تشاركهم في هذا، إنَّ هذه الأرواح تنتقل مع الإنسان الميت على شكل كلاب أو عنزات تدفن معه لتقوم بخدمته في العالم الآخر.
ويجد (الداياك) في بورنيو أنَّ لنبات الرز روحاً خاصة، وهم يجرون طقوساً خاصة عند جني الرز لتجنب غضب الأرواح.
 
سحرة بابل
وفي دراسة الدكتور تقي الدباغ المهمة عن (الفكر الديني في العراق القديم) نجده يتحدث عن السحر لدى الأقوام المتدينة الأولى مثل البابليين والفراعنة وسواهما، وهو يدرس السحر على أنه مزاولة يومية ضرورية لدفع الشر عن الإنسان وجلب الخير.
ويؤكد أنَّ قوانين حمورابي قد منعت ممارسة السحر الأسود وهو السحر الضار بالبشر وبما يملكون وعاقبت بالقتل من يمارسه.
وقد اشتهر سحرة بابل بقراءة طالع الملوك خلال انطلاقه للحرب أو لمعرفة المستقبل، بعدة طرق منها فحص كبد الذبيحة وسكب الزيت في الماء وضرب القداح.
 
التنجيم والأحلام
عرف البابليون منازل القمر ووضعوا صيغاً لطالع الإنسان على أساسها، وكان العرافون يتطيرون من خسوف القمر وكسوف الشمس، ومن رؤية الشمس والقمر معاً بين اليومين (12 – 22) من الشهر، إذ يخشون في هذه الأيام من كثرة اللصوص أو زوال الملك.
وكان لزاجر الطير في بلاط الملك درجة مهمة من درجات القصر الملكي، وخلاصة عمله أنه إذا رأى الطائر عند طيرانه ماراً من يمين الملك الى يساره، فالملك منتصرٌ في حربه أو سفره، وهناك حركات تفصيليَّة لهذا النوع من العرافة.
وعرف البابليون تفسير الأحلام وحللوا أنواعها في مسعى من العرافة لا دخل للسحر فيه.
 
معتقدات شعبيَّة
لقد عرفت الشعوب القديمة والمتحضرة الحديثة السحر بجميع أشكاله، وتزداد دكاكين السحرة والعرافين حتى أنشؤوا لهم فضائيات واصطنعوا رجال دعاية وترويج لهم، لكنَّ البشر عموماً ما زالوا يتفاءلون ويتشاءمون على وفق الحالة التي هم فيها، فاذا مر أو قفز أرنب في طريق سائق سيارة عندنا في وسط وجنوب العراق توقف السائق عن رحلته لفترة أو عاد من رحلته متشائماً وهو يقول (عرضة أرنب).
وإذا كان قائد السيارة محظوظاً ورحلته مباركة فذلك يكون عندما يقفز الغزال أمامه.
ويحتفظ سائق السيارة الألماني بدمية أسد من القطيفة في سيارته اعتقاداً منه أنَّ ذلك يجنبه مخاطر الطريق.
 
كف فاطمة
وإذا كان إنساناً قديماً – ولا زال - يريد من ضيفه أنْ يشاركه زاده رغبة في قضاء حياة أسعد، فإنَّه يخشى الحسد ويقر بوجوده انسجاماً مع قول القرآن الكريم (ومن شر حاسد إذا حسد)، ولذا فإنَّ سكان المغرب يستعينون بكف فاطمة لدرء الحسد وشرور العين، وكذلك يستعين أهل مدينة (عانة) العراقية بتشكيل نباتي يسمى عندهم (كف فاطمة) ويحتفظون به في بيوتهم طلباً للخير والرزق ودرءاً للشر وفاطمة المقصودة هي (فاطمة الزهراء البتول عليها السلام).
ذلك ما يورده دنيس بولم عن المغاربة في كتابه (الحضارات الأفريقية) وعبد العزيز العاني في كتابه (المدينة المغرقة).
أخيراً فإنَّ المعتقدات الشعبيَّة عموماً لا تتعلق بالسحر بقدر ما تتعلق بحاجة المجتمع الى الطمأنينة وإشاعة الفرح والأمان.