نهى الصراف
لا يمكن بعد ما صادفناه من أحداثٍ سيئة طوال هذا العام، أنْ نمتلك ترف الكتابة عن الأمنيات الغافية على عتبة السنة الجديدة.. فعندما تصبح نشاطات الحياة اليوميَّة على بساطتها، أمنية قلما نحظى بتفاصيلها الصغيرة، تتغير كثيراً الأولويات، القلق والحرص على سلامتنا الشخصيَّة وسلامة الآخرين صار في المقام الأول، ثم تأتي المحاولات المستمرة لرأب الصدع في الثقوب الصغيرة في قماشة عيشنا التي بدأت تتسع شيئاً فشياً، ولم نعد نملك الحيلة لإخفائها.
بدلاً عن ذلك، صرنا نعد خساراتنا الواحدة تلو الأخرى بدهشة واضحة. ترى، كيف تبدلت الأحوال هكذا على مدار اثني عشر شهراً وكيف غاب الأصدقاء والغرباء على حدٍ سواء.. هؤلاء الذين رسموا لأنفسهم قبل هذا التاريخ مسارات حملوها عربة الأمنيات في طرق كانوا يحسبونها طويلة، ولم يدركوا بأنها مجرد خطوات قصيرة على جسر النهاية. قصصٌ غريبة تمرُّ على مدارات سمعنا هذه الأيام، لم أعد أملك يقيني السابق في تصديقها، إلا أنَّ غرابتها لا تمنع من إمكان حدوثها. هناك صورٌ وشهودٌ حضروا مناقشة شهادة الماجستير لطالبة في طب الأسنان في إحدى جامعات العراق، لكن مقعدها كان شاغراً، لم تحضر الطالبة المجتهدة بعد أنْ خطفها الموت بسبب مضاعافات إصابتها بفيروس كورونا، ثم أنابت عنها في المناقشة أستاذتها المشرفة ليتسنى لها بعد ذلك الحصول على شهادة الماجستير وهي أغرب شهادة يمكن أنْ يحصل عليها شخص ميت، عدا شهادة الوفاة!
هل هذه مزحة ثقيلة؟
لا أظن ذلك، إنها نوع من الاحتجاج الصامت، احتجاج بلا شعارات ولا لافتات ولا مطالب، وبينما يكمل الموت طقوسه الأبديَّة على هذه الروح الفتيَّة، يبقى شيء ما من عطرها يدور في عالم الأحياء مثل عصفور مسكين باغته غروب الشمس قبل أنْ يحطَّ على الشجرة البعيدة، شجرة الأمنيات.
أما عندما خسرنا صديقنا القارئ الذهبي، وكانت هذه صفته في مجتمع فيسبوك، فكان الخبر أشبه بسلوك روتيني يمكن أنْ يمرّ ضمن يوميات البشر المتواترة، لكنَّ صديقنا كان شخصاً استثنائياً.. مغرماً بالقراءة في زمن لم يعد يمثل فيه الكتاب لأغلب الناس، سوى قطعة مكملة لديكور غرفة الجلوس أو غرفة المكتب إنْ وجدت، وبينما كان الناس يصرفون أوقاتهم في تحصيل المعيشة وأداء المسؤوليات اليوميَّة الكثيرة، تفرغ هذا القارئ لمكتبته الثرية.. يسابق الزمن وهو يعد المحصول في سلّة أمنياته لآخر العام، حتى يتسنى له في اليوم الأخير تدوين العناوين التي انتهى منها قبل أنْ يطوي شهر كانون الأول صفحتة الأخيرة. كانت الروايات تتساقط على أيامه مثل قطوف فاكهة لذيذة لا يتركها حتى يأتي عليها، ثم يعيدها إلى رفوف المكتبة الأنيقة ليقطف فاكهة أخرى ليتلو علينا خلاصة من عصارتها. كان يقطف غذاءه الفكري من أشجار متنوعة مرّت عليها جميع المواسم؛ يقرأ روايات عراقية قديمة وحديثة، روايات عربية، مترجمة وكل ما كانت تصل إليه ذائقته الفريدة، الشيء الوحيد الذي لم يقرأه جيداً هو صفحة حياته التي لم يقلّب جانبها الآخر.. الحياة التي لم يعشها جيداً، حين تفرغ بكامل مشاعره ليعيش في حياة الآخرين مترفعاً عن الواقع ومتمعناً في الخيال، ولعلَّ هذا هو الأمر الذي سهّل له مهمة دخول الأزقة الضيقة لنهاية لم يخطط لها، كان الأمر بالنسبة إليه مجرد رواية أخرى لم يفصّل أحداثها جيداً ولم يقدم تصوراته عن تفاصيلها لقرّاء صفحته في فيسبوك.. هذه هي الرواية التي عاش فيها ثم رحل وأوكل للغرباء كتابة نهايتها.