[I]
لا تكون المحبة من دون الألم. إنَّ ذلك يرتبط، على نحو أصيل، بثنائية [الشعور- والشعور المضاد]. ثَمَّةَ، في كل شعور، إمكاناتٌ متعدِّدَةٌ في ألاَّ يتجسَّدَ إلاَّ بعد حينٍ. تُصبِح المحبةُ محبةً، وتصير كذلك لأنَّها، بواسطة أصالة الألم البشري فينا، تأخذنا لكي نكون أكثر من الإنسان، في المعنى العادي له. حينما نصبح إنساناً، لا نكون أكثر من ذاتِ أنفسنا العميقة؛ إنَّ الإنسانَ فينا، إنَّما هو منسي. هذا النسيان، خلافاً لما يُتصوَّرُ، إنَّما هو هَويَّةُ وجود، وإنوجاد مجتمعيَّيْن. ولكن لماذا النسيان؟ وكيف يمكن للإنسان أن يُنسى بوصفه مصدراً
لذلك؟
[II]
لقد فَتحتْ، بعد الحرب العالَميَّة، وعصر ما بعد الحداثة، جملةُ الاِفتراضات والتصورات والأفكار الفلسفيَّة، الفكرَ نحوَ التَّساؤل: من أين وبواسطة أيَّةِ أفكار يمكن أن نقف عند المحبة بوصفها ضرورة وجودية، وقد صار الإنسانُ نسياً منسياً؟ أو إنَّه قد أصبح متوقفاً عند مستوى الآلة؟
[III]
إنَّ نسيان الوجود، أو نسيان الكينونة، أو نسيان أن نكون أصليين، إنَّما هي إشكاليات بدأت تبزغ مع نشأة المعرفة الفلسفيَّة- العِلميَّة الحديثة، مع تقسيم العمل، والتخصيص، والعقلنة، ونزع سحر العالم. لقد نُسيت المحبة بوصفها فائضةً عن اللزوم. يأخذ هذا الأمر أهميته، وسطَ الجدل الدائر حولها، فقط لأنها نُسيت. إنَّها نُسيت لأنها كان يجب أن تُنسى. وفي اللَّحظة الأكثر جذرية للإنسان، ولوجوده بوصفه هو كذلك، أي بوصفه ذاك الذي لم يكن من قِبَلِ على هذا النحو، بَعْدِيَّاً، هو هو، من جهة كونه متوفِّراً على إمكان أن يكون أكثر من ذاته، قد صارت المحبة ضرورةً. إنَّها تلك اللَّحظة التي عاد الإنسان لكي يكونَ تعدُّداً في ذاته.
[IV]
إنَّنا حينما ننظر إلى المحبة، من البعيد، وكأننا يجب أن نسير على الطريق التي تؤدي إليها، لا نعثر، في أوَّل بدء الطريق، إلاَّ على ذاتِ أنفسنا العميقة، بوصفنا لا- شيئاً. إنَّنا قد سقطنا في بؤرة القلق. تلك التي تدلنا على نحو صريح إلى الضياع. لقد ضعنا وسط توجيه دقيق لـ[ألاَّ- نكون]. حينما النشأة الأصليَّة للمعرفة العقلية- الفلسفيَّة، تلك التي وضعت من [نسيان- المحبة] أسساً لاِستمرار العقل، والعقلنة في الوجود المجتمعيّ؛ العلاقة التي تقوم على الإنوجاد المجتمعيّ وقد صار فعلاً مجتمعيَّاً متوفِّراً على فهم بالآخر.
[V]
ولكننا لا نظفر بالفهم، فهم المحبة، إلاَّ لأننا لم نفهمْ بعدُ، أي لم تقع المحبة علينا. إنَّنا فهمنا الآخر قَبلَ أن يقول ذاته حتَّى. إنَّنا لا نريد الآخر إلاَّ بوصفه قد تم تحديده دائماً قَبْلِيَّاً. إنَّنا لسنا مع الآخر، بقدر ما نحن مع ذاتنا. هذي الأنا التي مع الآخر الذي قد حدَّدته قَبلَ أن يكون حتَّى. إنَّه الآخر وقد صيغت له حدودَ إمكانِ وجوده. إنَّه الآخر المنسي. ولكن، بماذا يرتبط كل هذا برسول محبة يريد أن يقوله كلمته، وسط هذا النسيان الرهيب؟
[VI]
في فهمي العامّ: يتجسَّدُ يسوع المسيح / عيسى ابن مريم، كأقصى إمكان من إمكانات المحبَّة، والحد الأبعَد في تحمل الألم الإنساني. لقد تمثَّلَ على هيئة روح تتبارك الأرضُ بها لا لأنه رسول فحسبُ، بل لأنه علَّمَ الإنسان كل ممكنات المحبة، والألم. لقد قال ذات مرة، في أقسى ضروب الملاحقة والترهيب: “وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تُحبُّوا بعضكم بعضًا. كما أحببتُكم أنا تُحبونَ أنتم أيضًا بعضكم بعضًا”. لأنَّ بالمحبة فحسبُ يثبتُ الله فينا. لقد عُرضت عليه كل الاِمتيازات والسُّلَط الأرضيَّة من قِبَلِ رجال السلطة في الدِّين، والسياسة؛ ولكنَّهُ كان درسًا للوفاء والإخلاص للبشرية جمعاء. إنَّ يسوع المسيح تمثَّلَ لنا على هيئة كل الإمكانات الكُلِّيَّة في السَّبيل إلى أن نكون إنسانًا في معنى راقٍ جليل وشريف. في مسيرته العميقة نتعلم دروسًا تتضمَّنُ المعاني الآتية، على أقل تقدير:
I- لقد كشف لنا لِكَم يمكن أن يكون رجلُ الدِّينِ المتحالف مع السلطة دنيئًا على الضدِّ من إرادة الإنسان والإنسانية.
II- تعلمنا منه ومعه أن ضريبة السير على خطى إرادة الرُّوح الكُلِّيَّة يمكن أن يكونَ الموتَ الجسدي، والألم العظيم.
III- علَّمنا ويعلِّمنا أن مسألةَ المحبَّةِ، محبة الإنسان، منه وإليه، ليست تتوفَّر على إمكان المساومة عليها.
IV- لقد علَّمنا أن السلطةَ يمكن أن تكون في ذروة توحُّشها قبلَ اِنهيارها العامّ.
V- إنَّنا معه، ومعه فقط، نتوقف عند مستوى الألم الإنساني الأعظم على هذه الأرض التي اِمتلأت ظلمًا وتوحُّشًا؛ إنَّه أصرَّ أن يضعنا أمام قوة المحبة والإمكانات العميقة التي فيها؛ في وجه كل ضروب التوحُّش والإجرام البشريَّين.
VI- إنَّنا نفهم من قوله: “يا أبي إغفر لهم هذا” أنَّه يضعنا أمام تحدي كظم الغيظ.