نلاحظ عادة ونحن نقرأ السيّر الأدبية لشعراء العالم، أنهم يفضلون ان يحمل كتابهم الاول عنواناً واحداً وهو (قصائد) باعتباره يدل على (مجموعة) تمثل مقتطفات متفرقة من تجربة ذلك الشاعر، إلّا إذا ربما استثنينا بعضاً من تلك التجارب، والتي يضع فيها أولئك الشعراء عناوين لكتبهم الشعرية، تندرج عادة وتنتمي الى جسد العنوان باعتبار الأخير (عتبة نصيّة) أو(ثريا) لهذه القصائد، والعنوان هنا عادة ما يشكل السراج الذي نهتدي به الى تلك القصائد، لذلك يفترض - ربما على اقل تقدير- أن تكون جل هذه القصائد تنتمي الى العنونة، وربما يسهم في تشكيل ثيمتها المعلنة.
أما الشعراء العراقيون ومنذ زمن طويل، دأب أغلبهم على وضع عناوين لمجاميعهم الشعرية تتكون من جملة كاملة أو من كلمة واحدة أو ربما من عبارة لفظية، ولم يجازف أحدهم بوضع كلمة (قصائد) كعنوان لمجموعته الشعرية إلّا ما ندر.
والشاعرة نورس الجابري في مجموعتها الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق (في حنجرتي طائر منسي) 2018، فهي كغيرها من الشعراء تضع عنواناً (شعرياً) كعتبة نصية لمجموعتها الشعرية (في/ حنجرتي/ طائر/ منسي)، وكما نرى فإن (الياء) هنا في كلمة حنجرتي هي (ياء التملك) والحنجرة هي جزء لا يتجزأ من الشاعرة، وهي بالإضافة الى الطائر يعودان الى ذات الشاعرة أما النسيان فهو صفة دالة على ذلك الطائر، وهذه العلاقات ستتكشف لنا عند تفحصنا نصوص هذه المجموعة اذ نجد أن هذا العنوان لم يوضع جزافاً، بل إنه وضع عن وعي ودراية من الشاعرة نفسها، إذ تجلى لنا وبوضوح في جميع نصوص مجموعتها الشعرية.
أما الأفعال الواردة في المجموعة فتدل على ركوز الذات الشاعرة وطرد (الغيرية) أو (الآخر) مثل (مزقتُ، انتهيتُ، ومسحتُ، فرأيتُ، داهمني، وأشعلتُ، جمعتُ، ولعنتُ، أشم، أستمع، ألمح، أسقط، أشرق، اهتديتُ، أرمي، أكَلّم، جففتُ، رميتُ، كسرتُ، طردتُ، انتظرتُ، أحبسه، أمتص، أكنس، أغرق، أطل..... الخ.
ولربما أن علاقة الاسم بالمسمى جعلتْ من نورس الشاعرة تتحول وتغدو في قصائدها الى (نورس الطائر) الذي ما أنفك يلتقط لنا صور السواحل المرعبة بمشاهد الغرق التي تعتريها وما يصيبها من انكسارات وفقد، وها إننا نراها تؤدي وظيفتها كطائر نورس - إذ ان للإنسان نصيب في اسمه، حسب الميثولوجيا العربية- فتنقل لنا ما تراه وهي محلقة في الأعلى: (أطفال يرمون أحذيتهم في النهر)، (تقف النوارس على شرفتي)، (فيما نحيب الطيور يملأ رأسي)، (وتناولت الحزن في ملعقته الأخيرة من مشهد طفل غريق...الخ)، وحينما تتحدث عن نفسها لا تستطيع أن تتجرّد من كونها ذلك النورس نفسه فتقول : ( لعنتُ البحر ألف مرة)، (طردتُ المياه من مخيلة الغرق)، (وتحبسني منارات المدن كطير غريب)، (وتأتي المياه لاهثة تحت أقدامي)، ( أفكر بالغوص في أعماق السماء ليلاً)، ( يستيقظ طائر منسي في حنجرتي)، (تحت مظلتي تصف الغيوم أجنحتها)، (وأنا تائهةُ في ملامح الغرق لا أعرف الأشرعة)، (أجرب نشوة التحليق في سمائك الفارغة)، (دعينا نحاول الطيران من جديد)... الخ .
تحاول الشاعرة الجابري في مجموعتها هذه ان تتمثل الروح العراقية، وتعكس ذلك الصوت الداخلي الواعي بمصيره ولحظته التاريخية، فالعنوان كما اسلفنا، يدل على وعي متشكل قبلي، يرى جميع النصوص ككل، وفق الرؤية التي يوحيها ذلك العنوان، او التي ينيرها للقارئ في طريق تلقيه لهذه النصوص، ولو كانت مجردة من هذا العنوان ودلالاته الجامعة، لأصبحت المجموعة شتاتا واصواتا تحمل وعيها الخاص، أي ان كل نص هو ذات منفصلة، او هو نورس يطير مستقلا عن سرب النصوص في سماء المجموعة برمتها.