لمحة عامة عن طبيعة الغناء العراقي

فلكلور 2021/01/06
...

 محمد الخالدي
عرف العراقيون الغناء والموسيقى منذ أقدم العصور التاريخية، وتعدُّ القيثارة البابلية أحد الشواهد الحيّة على مدى عشقهم للغناء وقتذاك، وقد شهد فن الغناء العراقي مراحل متعددة من التطوّر عبر حقب تاريخية طويلة حتى تكاملت حلقاته، وأصبح يمثّل ظاهرة بارزة، لاسيما في العصر العباسي الذي شهد الكثير من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بحيث صارت بغداد قبلة العلماء والأدباء، الذين كانوا يفدون إليها من بلدان عربية وأجنبية، ونتيجة لكل ذلك ازدهر فن الغناء وكثرت مجالس الأنس والطرب وراجت تجارة القيان الحسان والجواري أيما تجارة، 
وعلى الرغم مما تعرض له العراق طيلة تاريخه الطويل من غزوات وحروب، إلا أن فن الغناء لم يمت، بل  بقي صوتا معبرا عن معاناة  الناس وهمومهم وأشجانهم، ولهذا اتسمت الأغنية العراقية بالحزن العميق الذي أصبح سمة تميزه عن  غناء البلدان العربية الأخرى.
 
نظرة عامة على الأغنية العراقية
يرى السيد عادل الهاشمي أن القيمة الفنية للأغنية العراقية تكمن في كونها أغنية ( ذات لحن موسيقي متميز تتجلى فيه بوضوح الأوزان والإيقاعات المتبعة،إلى جانب ذلك، أن الأغنية الشجية البسيطة ذات الطابع الشعبي التي ارتبطت بالأسماع عبر عقود طويلة من الزمن) (1).
ولا شك أن هذه الأغنية تخضع لتقسيمات عدّة تبعا لتعدد البيئات الجغرافية الحاضنة لها،والتي تتمثل بالمدن والأرياف والبوادي.وهذا يعني أنّ هناك ثلاثة أنواع من الأغاني:
أولا: الأغنية الريفية .
ثانيا: الأغنية الحضرية (أغنية المدينة).
ثالثا: الأغنية البدوية.
 
طبيعة تركيبة الأغنية العراقية
يشير الباحث الموسيقي عادل الهاشمي إلى طبيعة تشكّل الإطار الفني للأغنية العراقية بالقول: (يتشكّل الإطار الفني للأغنية العرقية من الأغصان (المقاطع) إلى جانب المذهب أو (اللحن الأساس).ويتكوّن كل غصن من بيتين (سطرين) من الشعر، أو الزجل، وجرت العادة أن يخصص لكل مقطع في الميلوديا (نغمة واحدة)، وإذا ما رجعنا إلى التهجية الموسيقية (الصولفيج) لوجدنا أن هذه الأغنية، هي الصورة المثلى للأغنية الشعبية ذات الخواص الجمالية الدقيقة) (2).
ويرى بعض المهتمين بالموسيقى أنّ غناء المقامات العراقية وموسيقاها أوفر ضروب بقية الغناء من حيث الألحان، ويعزون أسباب ذلك إلى خصائصه التي تثير الشعور إثارة تنال قبول وإعجاب الأوساط الشعبية كافة في الوقت الحاضر، كما نالتها في ما مضى، فأهمية غناء المقامات بوصفه فنا رفيعا – بنظر الكثير - لا تقل عن أهمية بقية الفنون الجميلة،إذ تكمن قيمته في طبيعة تركيبه (3). 
أما من ناحية بنية الأغنية الرئيسة أو الركيزة التي يرتكز عليها الغناء فإنّ محور ذلك يتمثّل بثلاثة أبعاد مهمة هي:
أولا: النص الغنائي (الشعر المعد سلفا للغناء).
ثانيا: اللحن (الموسيقى أو التأليف الموسيقي)
ثالثا: صوت المطرب أو المؤدي.
إنّ اجتماع هذه العناصر الثلاثة وتكاملها على أحسن وجه، يمثل ذروة النجاح لأية أغنية سواء أكانت عراقية أم عربية . وهذا لا يعني أن التكامل المثالي متوفر في كل الأوقات للأغنية حتى يكون سببا رئيسا لنجاحها، إذ ربما يتوقف نجاح أغنية ما على الصوت واللحن معا من دون توفر النجاح للنص، وربما يكون الأمر بالعكس وهذا ما نلاحظه في كثير من الأغاني العراقية والعربية على حد سواء ولنأخذ مثلا على ذلك التجربة التي قام بها المطرب العراقي سعدون جابر في ثمانينيات القرن المنصرم بالتعاون مع الملحن المصري الراحل بليغ حمدي في تلحين بعض النصوص العراقية التي كتبها الشاعر كريم العراقي، فعلى الرغم من الشهرة الكبيرة التي يتمتع بها الموسيقار بليغ حمدي، فضلا عن شهرة المطرب سعدون جابر، إلا أن تلك الأغنيات لم تحقق نجاحا كبيرا، كما كان يؤمل منها، إضافة إلى أنها لم تشكل حضورا فنيا جيدا على مستوى ساحة الغناء العراقي والعربي، إذ سرعان ما تلاشت واضمحلت وكأنها لم تكن ولم تكتب لها الصيرورة. لقد عانت الأغنية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي كثيرا من التراجع والانزواء، بعد أن كانت تتسيد الساحة الثقافية بروائع الغناء العراقي، الذي قدمه ألمع نجوم الطرب الأصيل كالفنان ياس خضر وحسين نعمة وسعدون جابر وفاضل عواد وحميد منصور وغيرهم.
 
الحزن في الأغنية العراقية:
الحزن سمة إنسانية قديمة تميز بها الإنسان الرافدي منذ أقدم العصور،إذ طالما كان يمارسها في طقوسه اليومية، وهو يخوض غمار الحياة المليئة بالمصاعب والمتاعب والأحداث، فمنذ السومريين كان الحزن طابعا تقليديا يتكرر في كل الأدوار والأطوار التي تمس جوهر حياة الناس آنذاك، حيث مواكب العزاء التي تتقدمها الموسيقى الجنائزية، فضلا عن مراثي الإلهة والطقوس البكائية المغرقة بالأسى والدموع، وهذا ما نجده جليا في الأساطير السومرية القديمة حينما نستحضرها الآن.
 من هنا يبدو أن الحزن قد ورثه العراقيون من أجدادهم السومريين، لاسيما سكان جنوبي العراق الذين تميزوا بالنواح والشجن، وكأن دماء أسلاف القدامى ما زالت تجري في عروقهم إلى الآن، فهم ورثة حزن السومريين والبابليين ومن جاء بعدهم من السلالات العراقية القديمة.
أما أسباب هذا الحزن فهي متعددة يمكن أن نشخص بعضها بالآتي:
أولا: كثرة الحروب والفتن والصراعات .
ثانيا: تعرض العراقيون عبر التاريخ للكوارث الطبيعية كالفيضانات والحرائق والأوبئة.
ثالثا: مأساة الحسين وانعكاساتها على التراث الشعبي في المناطق الوسطى والجنوبية من العراق.
رابعا: استغلال الإقطاعيين للفلاح الجنوبي .
خامسا: الاضطهاد والسجون والتعذيب والتنكيل الذي تعرض له العراقي الجنوبي.
سادسا: الغزو والاحتلال المتعاقب على العراق.
سابعا: الظروف الاقتصادي والمعيشية ومعاناة الفقر والحرمان.
ثامنا: فقدان الأحبة والأعزة .
تاسعا: فشل التجارب العاطفية، فضلا عن قيود القبيلة المتزمتة التي تتسبب في النزوع نحو الإحباط واليأس.
وختاما نود أن نشير إلى حادثتين لهما علاقة بموضوعة الحزن التي نتحدث عنه، الأولى حصلت في بغداد في سبعينيات القرن المنصرم مفادها: أنّ قسم الموسيقى في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون العراقية أقام ندوة حول ظاهرة الحزن في الأغنية العراقية ،كان حضورها من المعنيين بشؤون الغناء والموسيقى من شعراء وملحنين، وقد تطرق مدير المؤسسة آنذاك السيد محمد سعيد الصحاف إلى ضرورة الابتعاد عن الحزن والإتيان بأغان مفرحة، وكان من ضمن الحضور الشاعر الغنائي الراحل جبّار الغزي الذي أنبرى لكتابة نص لأغنية حزينة، ولد كرد فعل يتعارض مع ما أريد في الندوة، وشاءت الأقدار أن يكون ذلك النص، أغنية تنال شهيرة واسعة بصوت المطرب قحطان العطّار،يقول مطلعها: ( يكولون غني ابفرح وآنه الهموم أغناي).
والثانية حصلت بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بعام تقريبا، إذ أقدم الشاعر الغنائي البصري طاهر سلمان على كتابة نص غنائي بعنوان (وداعا ياحزن) قام بتلحينه الفنّان الراحل طالب القره غولي وأداه المطرب ياس خضر.
في هذه الأغنية تكمن المفارقة والطرافة، إذ يخاطب الشاعر، الحزن بقوله: (وداعا يا حزن ولا توصل بعد ).
لم يستطع ياس خضر أن يفرحنا بغنائه، بل كان صوته شجيا حزينا كما عُرف عنه في غنائه السابق.
لم يوفق  في تغير نمطية غناء العراقيين، فبقي الحزن  لؤلؤة الغناء العراقي وقيثارته الأصيلة.  
 
 
هوامش:
1) الرؤية الفنية في الأغنية العراقية – مسيرة اللحنية العراقية، ط1،دار الشؤون الثقافية العامة «آفاق»، (بغداد 1990م)، ص16.
 2) المصدر نفسه،ص18.
3) ا حمودي الوردي، الغناء العراقي، ط1، مطبعة أسعد – بغداد 1964، ص5.