هل لخيانة النص متعة؟

منصة 2021/01/19
...

  ميادة سفر
 
تبدو مفردة "الخيانة" بشكل مجرد، وبمعناها الخاص - الشخصي والعام، منفّرة، ثقيلة الوقع والظل بما تحمل من الأذية المعنويَّة والنفسيَّة، وعلى مختلف الصعد.. ربما!.. لكنها وفي مقلبٍ آخر لا تبدو كذلك، إذ يصف بعض الكتاب والأدباء وأحياناً القراء، الترجمة بأنها خيانة للنص الأصلي، لكنها خيانة ضروريَّة في عصرٍ يمكن تسميته بعصر "تلاقح الثقافات". 
الترجمة، وبهذا المعنى، أشبه ما تكون بجواز سفر.. وهي بلا شك، تتيح للنصوص عبور الحدود الجغرافية والثقافية والحضارية، وتفتح آفاقاً لتبادل المنتجات الفكرية بين الشعوب، كما تقدم لمن لا يتقن لغة ثانية كل ما يحتاجه ويبحث عنه من علوم وفنون وآداب الشعوب الأخرى.. على سبيل المثال من أين كنا سنعرف أدباءً من أمثال غابرييل غارسيا ماركيز كأحد أهم أدباء أمريكا اللاتينية لولا ترجمة أعماله التي قدمها الراحل صالح علماني؟.. وكيف يتسنى لنا التهام آلاف الصفحات من أعلام الأدب الروسي لولا الترجمة التي قام بها مترجمون اقترنت أسماؤهم بذلك الأدب كمثل الدكتور سامي الدروبي؟.. أمثلة كثيرة تؤكد أنّ الترجمة، وإنْ اعتبرها البعض خيانة، إلا أنها مقارنة بالقيمة المضافة التي تقدمها للقارئ تغدو مشروعة بشكلٍ من الأشكال.
هذا لا يعني بالضرورة أنه يمكن لأي دارس ومتمكن من لغة أجنبيَّة أنْ يكون مترجماً ناجحاً.. فالمترجم الحقيقي ليس فقط من يتقن اللغة التي يترجم عنها، بل عليه أيضاً وأولاً أنْ يتقن اللغة التي يترجم إليها، فضلاً عن شروطٍ أخرى من الضروري توافرها ليتمكن من تقديم نص فيه روح وحياة البيئة التي خرج منها، وروح ونكهة البلد القادم إليه.
وكي تكون الترجمة عميقة وحقيقيَّة، يمكن إضافة شرطٍ آخر يجب، أو يستحسن، توافره عند المترجم.. هو العيش في المجتمع الذي يترجم عن لغته، وبالتالي الإلمام بثقافته ومعرفة عاداته وتقاليده وقيمه المجتمعيَّة والحضاريَّة ومنظومته القيميَّة والأخلاقيَّة، ذلك أنَّ اللغة ليست مجرد مفردات وعبارات وتراكيب وأبجدية، إنما هي نمط وطريقة حياة، ومجموعة قيم ومنظومات أخلاقيَّة، لا بدّ للمترجم من معرفتها ليعيش النص الذي يترجمه، ويخرج كتاباً يحار معه القارئ هل كتب بالإنكليزية أم الفرنسية أم العربية. 
ومن المفيد أيضاً أنْ يكون المترجم ملماً بالمجال الذي يترجمه، فإنْ كان يترجم أدباً، رواية.. قصة.. شعراً، فيفترض أنْ يمتلك ذائقة أدبيَّة مرهفة وعالية الحساسيَّة تجاه هذه الأجناس الأدبيَّة، أو أنْ يكون كاتباً في إحداها وملماً به وعالماً بأركانه وأدواته، وفي حال أراد أنْ يترجم شعراً مثلاً، من الأفضل أنْ يكون شاعراً أو ذواقاً للشعر، لتكون ترجمته حقيقيَّة أو أقرب إليها، وإلا تحول النص المترجم إلى نص ركيك المفردات وغير مترابط الأفكار. 
فضلاً عن ضرورة تمتع المترجم بخلفية ثقافية جيدة، وهو ما ينعكس على توضيح بعض النقاط الغامضة في النص والتي سيوردها في الهوامش، ما يعين القارئ على الفهم الأفضل والأوسع للنص الذي يقرأه، وهذه النقطة الجوهرية تحضر بشكل أساسي في ترجمة الكتب الفلسفية والسياسية والاقتصادية أكثر منها في الأدب، فكم من مفردات ومصطلحات استعصت على القارئ، قدمها المترجم مفسرة وموضحة نتيجة جهده وثقافته وتمرسه في المجال الذي يكتب أو يترجم فيه. 
وإنْ لم تكن الترجمة خيانة لا بد منها!.. لما استطاع أحد تخليد مؤلفات وكتب من مثل ألف ليلة وليلة!.. حتى ولو اختلفت الترجمات وتدخل فيها الرقيب، إلا أنها قدمت لنا كتاباً وصل إلى أقاصي الأرض ومغاربها!.. الترجمة استمرارية لحياة النصوص، وضخ للدماء في عروقها، لذلك وبحسب الكاتب عبد الفتاح كيليطو: "إن الكتاب يكتبون وفي مخيلتهم ذلك المترجم الذي سيضمن حياة أعمالهم"، فالترجمة أياً يكن موقفك منها، هي ولادة جديدة لنص مكتوب، فيها من اللذة والشغف والمتعة ما يضاهي الأصل وربما يتفوق عليه!.. إذاً، هي خيانة موصوفة ولا بد منها، إنما بأقل قدر ممكن من تهشيم النص الأصلي.. وبأقل قدر ممكن من الخسارة!.