عطية مسوح
الإنسان كائنٌ حالم، وإذا كنّا لا نستطيع الجزم بأنّ الكائنات الحيّة الأخرى لا تحلم، وبأنّ الحلم خصيصة إنسانيّة حصريّة، فإنّنا – على الأقلّ – نستطيع القول إنّ الحلم هو رفيق العقل الإنسانيّ، ورفيق مسيرة الإنسان منذ طفولته الأولى وحتى نهاية عمره . ولا نقصد بكلمة «الإنسان» الفردَ فقط، بل نقصد أيضاً الجماعاتِ البشريّة، والإنسانَ بوصفه نوعاً، أي البشريّةَ كلّها . فالفرد يحلم، ومن لا حلمَ له لا طعمَ لحياته، ولا تقدّم فيها . وكلّ جماعة بشريّة تحلم، ولولا ذلك لما استطاع شعبٌ أو جماعة تحديدَ أهداف يتعلّقون بها ويسعون إليها . ويتفاوت الناس في أحلامهم، فثمّة من تصغر أحلامهم فلا تتجاوز حدود واقعهم إلاّ قليلاً، وثمّة من تكبر أحلامهم وتحلّق في فضاءات واسعة. ثمّة من تتمحور أحلامهم حول حياتهم الشخصيّة ومصالحهم الخاصّة القريبة والبعيدة، ومن تتّسع دائرة الحلم لديهم فتشمل جماعة أو وطناً أو أمّة، بل قد تشمل البشريّة كلّها.
ولكن، كيف يسعى الإنسان باتّجاه تحقيق حلمه؟ وكيف ترتسم معالمُ طريق سعيه؟ هنا يأتي دور الخيال. فليس الإنسان مجرّد كائن حالم، بل هو كائن متخيِّل أيضاً. فإذا كان الحلم تعبيراً عن طموح الإنسان إلى الأفضل والأجمل فإنّ الخيال هو الذي يجسّد الحلم في صورة ما، أو صيغة محدّدة، وهو الذي يرسم للإنسان (فرداً أو جماعة) طريق السعي إلى الحلم . وكما يتفاوت الناس في أحلامهم يتفاوتون في خيالاتهم. فقد يحلم المرء حلماً ما، يتعلّق بحياته الشخصيّة أو بالحياة العامة، ولكنّه قد يكون محدود الخيال، فلا يستطيع أن يتصوّر (إذا كان الحلم شخصيّاً) أو يسهمَ (إذا كان الحلم عامّاً) في تصوّرِ معالم الطريق المفضي إلى تحقيق هذا الحلم . ويقودنا هذا التفاوت في الخيالات إلى فكرة نراها كبيرة الأهمّيّة، تتعلّق بالإبداع، يمكن أن نصوغها على النحو التالي: ليس المبدع هو من تكبر أحلامه، بل هو من يتّسع خياله، فيبدع في تصوير حلمه، ورسم تصوّره للوصول إليه أو السعي في طريقه.
وإذا كان الحلم تعبيراً عن الطموح، فإنّ الخيال هو الذي يضع الصيغةَ المحدّدة لهذا الحلم والتصوّرَ العمليّ للسير إليه. وبالتالي، فإنّ الخيال ليس هو نقيض الواقعيّة، بل هو الصورة الذهنيّة لتحويل الحلم إلى سعي يؤدّي إلى واقع منشود. أمّا نقيض الواقعيّة فهو الحلم، أو على نحو أكثر دقّة، هو الحلم الذي لا يعطيه الخيالُ صيغة محدّدة، أي لا يحوّله إلى هدف ممكن التحقّق . وهكذا يمكن أن نقول: إنّ الإنسان الذي تضعف لديه القدرة على الحلم، يضعف طموحه، وقد يصل به الأمر إلى القبول بواقعه والتكيّف معه، والإنسان الذي تضعف عنده القدرة على التخيّل، لا يمكن أن يكون عمليّاً، لأنه لا يعرف كيف يسعى إلى حلمه.
وحين نقول إنّ الحلم الذي لا يقترن بخيالٍ يرسم معالم الطريق إليه، هو نقيض الواقعيّة، فإنّنا نميّز بين الواقعيّة والتسليم، فالواقعيّة تعني إدراك الواقع ولا تعني القبول به. إنّ رفض الواقع يقوم أساساً على فهمه، وهذا الفهم يتضمّن بالضرورة معرفة قوى التغيير الكامنة في الواقع المرفوض ذاته. وبالتالي، فإنّ الواقعيّة في واقع مريضٍ أو مختلّ تعني رفضَه والحلمَ بواقع أفضل، وتجسيد الحلم في صورة معيّنة ورسم معالم طريق السعي إليه (وهذه مهمة الخيال) يقومان على تلمّس قوى التغيير واستنهاضها، وهذه هي الواقعيّة الفعّالة . ولكن، هل يكفي عدمُ القبول بالواقع والحلمُ بالأفضل، والخيالُ المبدع الذي يرسم طريق السعي التغييريّ، لحدوث التغيير المنشود؟ تجربة الإنسان تجيب عن هذا السؤال بالنفي. فكثيراً ما يحلم الشخص منّا بالعيش في وضع أفضل من وضعه، أو بتحقيق شيء ما يجلب له السعادة، ويوصله خياله إلى تصوّر الطريق، ولكنّه لا يبرح واقعه المرفوض ولا يقترب من حلمه خطوة واحدة! فهو يحلم ويتخيّل، ويتنعّم بحلمه ويتلذّذ بتكراره، وينتظر معجزة ما تحقّق له ما يريد.
وكثيراً ما يحلم شعب أو جماعة سياسيّة أو غير سياسيّة، بتحقيق هدف ما، ويجسّده القادةُ والمفكّرون بشعارات كبيرة جذّابة، وتنطلق مخيّلاتهم لترسم الطريق إليه، وتُبَحّ حناجرُ الناس وهم يهتفون به، ولكنّهم لا يتحرّكون نحوه ولا يبذلون جهداً يتجاوز الكلام إلى الفعل! الحلم والخيال لا يكفيان إذاً للوصول إلى البدائل المطلوبة. فما هو الثالث الحاسم؟ إنّه الإرادة، التي تتجلّى بالأفعال، بالخطوات الدؤوبة الثابتة الموزونة. ولعلنا نوجز فنقول: إنّ حلم الإنسان هو ما يعبّر عن رفضه واقعَه الرديء، وخيال الإنسان هو ما يحوّل الحلم إلى هدف قابل للتحقّق، وإرادة الإنسان هي ما يزجّه في الطريق إلى هدفه. ومن لا يمتلك الإرادة يتبدّد خياله، ويصبح حلمه وهماً.إنّه ثالوث الحراك الإنسانيّ المثمر، ثالوث التقدّم عبر
العصور.