باسم حمودي وفن السيرة الشعبيَّة

فلكلور 2021/01/20
...

 د.علي حداد
 
ما كان لدرس (السيرة) أنْ يكون حاضراً بقوّة بين دراسات الأدب الشعبي العراقيَّة لولا جهود الأستاذ (باسم عبد الحميد حمودي) ودأبه في الكتابة ضمن هذا النوع الأدبي، واشتغاله على تفصيلات بعض السير الشعبيَّة وتوثيقها، وذلك هو الجانب الأوفر من كتاباته في الأدب الشعبي التي بدأها منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، التي نشر فيها بعض مقالاته عنه في مجلات عراقيَّة وعربيَّة، كانت أولاهن مجلة (الأديب) البيروتيَّة، التي نشرت له في أيار/ مايو 1957، دراسة بعنوان (الأدب الشعبي العراقي).
 كان اتجاه الأستاذ (باسم عبد الحميد حمودي) في مرحلة من نشاطه النقدي نحو السرد وكتاباته في نقد القصة لتوثيق صلته بالسرد الشعبي، كونها أمدّته برصيدٍ معرفي، لا نشك في أنه قد جرت مناقلته عنده إلى حيث يستفاد من أفكاره وآلياته الحديثة في تأمل السرد العربي القديم، ولا سيّما (السيرة الشعبية) التي تبرز فيها مؤثرة عناصر (الراوي) ووجهة النظر التي يترسم للسرد مساره من خلالها، و(شخصية البطل)، وسيرورة (الحدث) وأنماط تجسده. وكلها مما قدّمت الدراسات السردية الحديثة فيه نظرياتها واتجاهات درسها التي أنتجت علماً معرفياً قائماً بذاته هو (علم السرد).
عاد الأستاذ حمودي في أوائل السبعينيات ليكتب عن الأدب الشعبي، وينشر دراساته عنه في الصحف والمجلات العراقيَّة، لا سيّما مجلة (التراث الشعبي) التي تواصل مع هيئة تحريرها منذ تأسيسها وعبر العقود اللاحقة من سني إصدارها، لينتقل لاحقاً إلى العمل رئيساً لتحريرها مدة لعلّها الأطول بين من شغل تلك المسؤوليَّة. 
تكرس الجهد الحصيف لدى الأستاذ حمودي، في مجال السيرة الشعبية منذ كتابه (الزير سالم) الذي كان أول ما صدر له في مجال التراث الشعبي عام 1989م، ليتلوه بعده بسنوات كتابه الآخر (تغريبة الخفاجي عامر العراقي)، ثم كتابه الثالث (التراث الشعبي والرواية العربيَّة الحديثة) الذي ماهى فيه بين قراءاته في السرد العربي الحديث وما تكشف فيه من مضامين التراث الشعبي.
ولعلّ كتابه (سحر الحقيقة) الصادرة طبعته الأولى سنة 1999م هو الكتاب الذي يقدّم جلياً مشهد القراءات التراثيَّة الحصيفة عند هذا الباحث الجليل الذي واكب التراث الشعبي بمختلف أجياله، فقد تضمن ـ كما ورد في مقدمته: «سياحة في فكر التراث الشعبي، محطات ذاكرة، وثقافة تفصيليَّة وعامة، ومقومات أسطورة، وحكاية وسيرة. بدأت بالدراسات في هذا العالم الغريب المعجز، ووقفت عند شخصيات فولوكلوريَّة بعينها... ثم عرضت لمجموعة الكتب الخاصة بهذا النوع من العلوم الإنسانيَّة الذي نعدّه مفتاحاً لكل سعي إنساني نحو الحقيقة، وكم للحقيقة من سحر أخّاذ إذا كانت مرتبطة بالفكر الجمعي». (سحر الحقيقة، ص5).
لقد تضمن الكتاب جهود الأستاذ (باسم عبد الحميد حمودي) في دراسة حقول التراث الشعبي المختلفة وعلى مساحة من سنوات اشتغاله المتواتر الخصب. وما يستوقفنا منه هنا جهده الرصين في مجال (السيرة الشعبيَّة العربية) التي يصفها بـ (الملحميَّة)، ويرى أنها»عبرت ـ بمختلف نصوصها ورواياتها ـ عن الوجدان الشعبي، وعن التوق للحرية، وتأكيد الذات فردياً وجماعياً». (سحر الحقيقة، ص27).
وتتأتى فاعليَّة السيرة الشعبيَّة ـ طبقاً لرأي الباحث، وهو يقرأ سيرة (سيف بن ذي يزن) التي دوّنت خلال القرن الخامس الهجري ـ في قدرتها على أنْ تخاطب البعد العاطفي للمجتمع الشعبي العربي «فقد كان الوجدان الشعبي بحاجة إلى صيغة حلميَّة موحدة، ترمّم ما تبعثر، وتوحد ما تجزأ على صعيد الواقع» (المصدر نفسه، ص27)).
وإذا كان الباحث قد تناول بالقراءة أكثر من سيرة قديمة تداولتها البيئة الشعبيَّة العربيَّة في مراحلها المختلفة، فلعلّ واحداً من جهوده المعطاءة توجهه نحو شخصيات في البيئة الشعبيَّة العراقيَّة قريبة العهد، ولكنها دخلت في تمثلات الوجدان الشعبي حتى صارت «تروى عنها الحكايات التي تقرب من الأساطير»(المصدر نفسه، ص282)، تلك الشخصيات التي سعى إلى لمِّ شتات أخبارها وتفصيلات من سيرتها، صانعاً مشهداً سردياً مخبراً عنها، كالذي فعله مع شخصية (حمد آل حمود) الذي عاش خلال القرن الثامن عشر الميلادي شيخاً لقبيلته (الخزاعل). وكان في صراعٍ دائمٍ مع الولاة العثمانيين، ليصنع تاريخاً شخصياً لافتاً، ويمسي مثالاً للرجل الفارس والحكيم، حتى ليرى الباحث أنَّ «الهالة الأسطوريَّة التي أحيط بها هالة يستحقها، وإنْ كانت التفاصيل التاريخيَّة لا تتطابق تماماً مع الحكايات، وليس لها أنْ تتطابق، بل أن تشي بجزءٍ من تفاصيل حياته تريدها الحكاية الشعبيَّة وتقصدها لغاية حكائيَّة، أو لاستجلاء حكمة أو موعظة» (المصدر نفسه، ص292).
ولا شك في أنَّ مسعى تدوين سيرة خاصَّة ببعض الشخصيات التي عاشت في أزمنة ليست بعيدة من زماننا ـ سواء أكانوا من الفرسان أم الحكماء، أم الشعراء ـ جهد ثقافي مهم، لا سيّما حين لا يتأسس على نزعة التدوين التاريخي المقننة، بل عبر إعادة إنتاج ما تبنته البيئة الشعبيَّة وتداولته، وأضفتْ عليه من فعل خيالها ونزوعها نحو الغرائبي والمثير من الوقائع والسمات ما يجعل تلك السيرة ممكنة الانضواء في الفضاء الشعبي المتسع لعددٍ كبيرٍ من (سير) الشخصيات المشهورة ومن مختلف مراحل التاريخ العربي وعصوره.