الغابة المطيرة الاستوائيَّة.. أملُ العالم في استقرار المناخ
منصة
2021/01/20
+A
-A
كينشاسا: بي بي سي
يقول باتريك واسا نزيابو: «إن الذرة تنمو بسرعة كبيرة إلى درجة يصعب معها معالجة جميع المحصول. فالأرض هنا غنية وتوفر لنا الغذاء من نواح عديدة، ولهذا نعدها أرضا مقدسة».كان نزيابو يفصل بحركة خفيفة من يده عشرات من حبوب الذرة الذهبية عن الكيزان المجففة في الشمس ويضعها في دلوٍ مملوء عن آخره بالذرة الصفراء. وكان الشاب الثلاثيني محاطاً بمجموعة أطفال يتابعونه بشغف وهو يفرز محصول الذرة في قطعة أرض خصبة تبعد أقل من نصف ساعة سيرا عن قريته، نكالا، وسط الغابة المطيرة الاستوائية بجمهورية الكونغو الديمقراطية.
علاقة طويلة الأمد
وتمتد علاقة سكان قرية نكالا بالغابة لأجيال مضت، لكن هذا العلاقة اتخذت منحى جديداً في السنوات الأخيرة. ففي كانون الأول الماضي، مُنح 300 مزارع من نكالا، 16 ميلاً مربعاً من أراضي الغابات في حوض الكونغو الذي يضم ثاني أكبر كتلة من الغابات الاستوائية المطيرة في العالم، بموجب خطة جديدة.
فقد ضمنت هذه الخطة، حصول المجتمعات المحلية للمرة الأولى في التاريخ على الحق القانوني لحيازة أراضي الغابات التي يعيشون فيها وإدارتها. وبعد عامين فقط، ظهرت بوادر نجاح هذه الخطة، وقد تصبح الحيازة المجتمعية أداة قوية لإيقاف تضاؤل رقعة الغابات في حوض الكونغو، وتسهم في تخفيف وطأة الفقر في واحدة من أفقر المناطق في العالم.
وتقول فيفي ليكوند مبويو، رئيسة إدارة الغابات المجتمعية التابعة لوزارة البيئة، وهي الجهة المنوط بها إدارة هذه الخطة: «تمثل هذه الخطة فرصة هائلة لإحداث تغيرات جذرية في البلاد، فهي تختلف عن جميع الأنظمة السابقة».
ويضم حوض الكونغو غابة مطيرة أولية مساحتها نحو 1.2 مليون ميل مربع (314 مليون هكتار)، تعدُّ الأقدم والأكثر كثافة والأكثر أهمية بيئياً في العالم. وتسهم هذه الغابة في الحفاظ على استقرار المناخ العالمي، وتمتد عبر ستة بلدان في وسط أفريقيا، وهي جمهورية الكونغو الديمقراطية والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو والغابون وغينيا الاستوائية. في حين أن مساحة غابات الأمازون المطيرة الأولية تبلغ نحو 2 مليون ميل مربع.
تمتص ثاني أكسيد الكربون
وتمتص أشجار حوض الكونغو ما يصل إلى 1.2 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا وتختزن كميات أكبر من الكربون بمقدار الثلث مقارنة بالكميات التي تمتصها غابات الأمازون في المساحة عينها من الأراضي. وتوجد في الهكتار الواحد من غابة حوض الكونغو المطيرة أنواع من الأشجار تفوق جميع أنواع الأشجار المحلية في المملكة المتحدة.
وتضم غابة الكونغو المطيرة أيضا أكبر أراضي الخث الاستوائية في العالم، وما يقدر بنحو 10 آلاف نوع من النباتات الاستوائية والحيوانات المهددة بالانقراض التي لا توجد في أي مكان آخر في العالم، مثل أفيال الغابات وغوريلا الجبال والمنخفضات وحيوان الأوكابي.
ويقول سايمون لويس، الخبير الجغرافي بجامعة لندن الجامعية والذي يجري أبحاثا ميدانية في حوض الكونغو منذ العام 2002: «هذه الغابة التي تعد أكبر مخزن للتنوع البيولوجي، تقدم خدمات جليلة للبشرية. تؤدي غابة حوض الكونغو المطيرة، التي لا تزال تقطع فيها الأشجار بوتيرة أقل مقارنة بغابات الأمازون وأثبتت أنها أكثر صمودا في وجه الظواهر المناخية، دورا غاية في الأهمية».
لكن لويس اكتشف أنَّ مظاهر التغير المناخي، مثل ارتفاع درجات الحرارة وتواتر موجات الجفاف، أثرت في قدرة الغابة المطيرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون. فقد لاحظ لويس أن الأشجار في حوض الكونغو، التي أثرت الظواهر الجوية المتطرفة في نموها، فقدت قدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون منذ العام 2010.
وتضاءل أيضا عدد الأشجار في الغابة المطيرة. فالأنشطة الصناعية، مثل استخراج زيت النخيل والتحطيب والتعدين، أسهمت في تسارع وتيرة قطع أشجار الغابات وتدمير موائل الحيوانات والإخلال بتوازن النظم البيئيَّة. وتشير تحليلات منصة «غلوبال فورست ووتش»، التي توفر بيانات لمراقبة الغابات، إلى أنَّ خسارة الغابات في حوض الكونغو تضاعفت من العام 2002 إلى 2019. إذ تشير التقديرات إلى فقدان 590 ألف هكتار من مساحة الغابات في العام 2019 وحده.
قد تختفي الغابة المطيرة
وخلصت دراسة نشرت في العام 2018، إلى أنَّ جمهورية الكونغو الديمقراطية قد تختفي منها الغابة المطيرة الأولية بنهاية القرن الحالي إذا استمر فقدان الغابات بالوتيرة ذاتها.
وعلى عكس غابات الأمازون، حيث تسبب التحطيب والزراعة في تدهور الغابات، فإنَّ إنتاج الفحم والممارسات الزراعية القائمة على القطع والحرق لا يزالان يشكلان المحرك الرئيس لإزالة أشجار الغابات في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وتقول أليكساندرا تيوكافينا، العالمة الجغرافية بجامعة ميريلاند، إن نحو 93 في المئة من خسارة الغطاء الحرجي في الفترة بين عام 2000 و2014، في جمهورية الكونغو الديمقراطية، كان سببها الممارسات الزراعية لصغار الحائزين. ولهذا يعلق دعاة حماية البيئة آمالا على قانون إدارة المجتمعات المحلية للغابات في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وأكدت دراسة أجراها معهد الموارد العالمية دور منح امتيازات الغابات للمجتمعات المحلية في تحفيز أفراد المجتمع لإدارتها بأساليب مستدامة. إذ خلصت الدراسة إلى أنَّ المجتمعات المحلية تحافظ على مخزون الكربون في الغابات وتحسنه عندما تحصل على حق ملكيتها.
وأجرت مؤسسة الغابات المطيرة في المملكة المتحدة، التي تهدف لمراقبة تنفيذ امتيازات الغابات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، دراسة تحليلية خلصت إلى أنَّ معدل إزالة الأشجار في الامتيازات التي منحت للمجتمعات المحلية في العام 2019، كان أقل بنسبة 23 في المئة عن المعدل الوطني وأقل بنسبة 46 في المئة عنه في الامتيازات الممنوحة لشركات الأخشاب. وتدل هذه البيانات على أنَّ الأراضي التي يدير فيها السكان المحليون الغابات كأنها ملك لهم، تقل فيها معدلات قطع الأشجار.وفي هذه الدولة التي تبدو فيها مشكلة البطالة مستعصية، ويعيش فيها 72 في المئة من السكان على أقل من 1.90 دولار يومياً، لم يقاوم الكثيرون إغراء صيد الحيوانات البرية في الغابة لجمع المال.
ويقول نزيابو: «إن المبالغ التي قد تجنيها من عملية صيد واحدة قد تكفي لسداد مصاريف المدارس لعام كامل، وستضمن الحصول على الطعام الكافي لأسرتك لمدة طويلة».
ومنذ أنْ منحت امتيازات لقرية نكالا لاستغلال الغابات قبل عامين فقط، زاد تنوع المحاصيل في المزارع، إذ تزرع الأسر الذرة والأناناس والكسافا، لحماية الأراضي من الظواهر الجوية المتطرفة وغير المتوقعة، وتنويع مصادر دخل المجتمعات. وكان هذا أحد شروط الإدارة المستدامة للامتيازات.
وأقيمت جمعيات تعاونية لبيع منتجات المجتمعات المحلية، مثل السلال والأبسطة المصنوعة من سعف النخيل، لتوفير فرص عمل لنساء القرية.
مساعدة المجتمعات النائيَّة
وعن تأثير الامتيازات على القرية، يقول إنوسنت ليتي، المنسق الإقليمي بمنظمة «مباو مون تور» الأهلية التي تساعد السكان في الحصول على الامتيازات: «كانت قرية نكالا عندما جئت إليها قرية نائية وتفتقر للخدمات، لكن اليوم، أقيمت فيها الجسور لعبور الأنهار، وافتتحت مدرسة وتحسنت الحياة اليومية».هذا المشهد متكرر في مختلف قرى جمهورية الكونغو الديمقراطية، فعلى بعد 320 كيلومترا من قرية نكالا، منح سكان قبيلة لوكولاما، البالغ عددهم 500 شخص، نحو 10,000 هكتار من أراضي الغابة في العام 2019، ويربون الآن النحل ويزرعون الطماطم ويجمعون الديدان. وفي يانونغي، يساعد مركز أبحاث الحراجة الدولية أربعة مجتمعات نائية للحصول على امتيازات من خلال زراعة الفول السوداني وموز الجنة.
غير أنَّ تكاليف تلبية هذه الشروط باهظة. إذ تشير تقديرات مؤسسة الغابات المطيرة بالمملكة المتحدة إلى أنَّ تكاليف منح امتيازين في جمهورية الكونغو الديمقراطية، بما في ذلك الاجتماعات ورسوم استخراج المستندات والالتزام بالقوانين، بلغت 109 آلاف دولار و153 ألف دولار، وهذه المبالغ تبدو مستحيلة للكثيرين من أفراد هذه المجتمعات الذين يعيشون في فقر مدقع.
وبخلاف التكلفة، ثمة مشاكل أخرى تعوق تنفيذ هذه الخطة، منها أن الكثير من المجتمعات النائية في الكونغو لا تعرف عنها شيئا. وبسبب الإجراءات المعقدة، قد يكون حصول المجتمعات على هذه الامتيازات من دون دعم وإرشاد المنظمات الأهلية، مستحيلا.
لكن خبراء إدارة المجتمعات للغابات يقولون إن خطة جمهورية الكونغو الديمقراطية هي النموذج المعدل لمبادرات أخرى مشابهة في الدول المجاورة، مثل الكاميرون والغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى.