كولاج تأويل.. ترحيل المصطلح، وتعدّد الأدوات النقديَّة

ثقافة 2021/02/09
...

  محمد حاجم
إن المطلع على مشروع (كولاج تأويل) للكاتب (علي شبيب ورد) سيقف على عدة مواطن تتكشف له عن طريقها أهم السمات النقدية التي تسيِّر وجهة نظره عن النصوص الأدبية وكيفية معالجتها، ومن أهم هذه السمات هو تحرره الدائم أو محاولته الإفلات من قيود المناهج النقدية التي تثقل كاهل المتعاملين معها بمصطلحات ومحددات لا نهائية، لا نعني عدم اعتماد مسار محدد في الكشف عن مضمرات النصوص الأدبية والتخبط في وضع أهداف ونتائج ختامية لرحلة البحث، بل يعني إعطاء دفق عالٍ من الحرية للأدوات النقدية، التي تنسجم مع الفضاءات الواسعة التي يتشكل عن طريقها النص الأدبي.
من ثم نحن أمام معادلة في غاية الأهمية تتقابل فيها (حرية النص) مع (حرية النقد)، وهو لا محال نوع من التجريب الذي يجعل من أولياته أن النص الأدبي مراوغ، ولا يمكن تحجيم تفسيره وتحليله وفقا لوجهة نظر واحدة، بل علينا بالأساس أن نرتكز على معمار ثقافي هائل يمكِّننا من استعياب ما تروم إليه النصوص الأدبية استطاعت النظرية الأدبية عموما والنقدية على وجه الخصوص استيعاب عدة مفاهيم ومرتكزات من الفنون المجاورة والعلوم التي قد تكون بعيدة عن الأدب بصورة كبيرة؛ لأن كثيرا من المفاهيم قد رُحِّلَت بقصدية تامَّة نحو النظرية النقدية، من فنون شتى مثل (النحت والموسيقى، والرسم، والمسرح وغيرها)، ومن العلوم كذلك مثل (الفيزياء، والكيمياء، وعلم النفس، وعلم الاجتماع.. الخ)، ولعل المطلع على معاجم النظريات النقدية المختلفة سيجد تمثلا لما توصلنا إليه، بهذا فقد استفاد الكاتب من مفهوم (الكولاج)، وهو مفهوم بصري، ينتمي لحقل (فني-معرفي) اسمه (الرسم)، يهتم بجمع أجزاء متناثرة ليشكِّل في النهاية لوحة معينة، ولعلَّ مردَّ ذلك أن الكاتب يتعامل مع عينات كبيرة ومتباعدة من النصوص الأدبية، التي تنتمي لمرجعيات مختلفة، وألوان كتابية غاية في التباعد وعدم الانسجام، لأننا وكما نعرف أن لكل كاتب مزاجه الخاص الموجه له في الكتابة، وثيمته التي يرتكز عليها، فيصبح من المستعصي حصر تلك التوجهات الكتابية في خانة ضيقة، وهذا يعيدنا لسؤال في غاية الأهمية يتعلق في الكيفية التي يتمُّ عن طريقها رصد مواطن الجمال في ظل هذا (التبعثر) الذي قد يخلقه القفز على منهجية محددة ورؤية موحدة لتلك النصوص؟ وهنا نجيب بقولنا: إن العمل الأدبي في حالة تفاعل مستمر مع مؤثراته الداخلية والخارجية، وإذا كان لا بد من رصد لهذا التفاعل فنحتاج إلى فهم دقيق يهدف إلى الكشف عن العلاقة الجدلية المتبادلة بين العمل الأدبي، وبين مؤثراته المتنوعة، أما (المبدع) فهو من يحاول الوصول إلى أبعد نقطة من المجتمع ومحاولة إظهارها بشكل مغاير، وليس الداعي لهذه العملية هو الخلق الأدبي فقط، إنما هو محاولة لملء الفراغفي أيّة ناحية من نواحي الحياة، وهنا يأتي دور التجميع أو (الكولاج) في لملمة وجهات النظر الصادرة عن المبدعين، وهو ما يسهل على القارئ عملية التلقي بعيدا عن محددات الزمن ونظريات الأجيال.
من هنا يحاول الكاتب (علي شبيب ورد) في الوصول للوحة نهائية من معاني لا نهائية تبثها النصوص الأدبية، وكأن القارئ لمشاريع (الورد) النقدية، أمامَ رواية (بوليفونية) تتداخلها أصوات (نقدية)، تواجهنا بعدَّة فنية هائلة توصل القارئ لخلاصة مهمة مفادها: إن ما من نص أدبي خارج إطار النقد، ولكن يحتاج الأمر لكشف تتنوع فيه الأدوات، وارتكاز على وجهات نظر عابرة للمنهجية التي قد تغض البصر عن كثير من مواطن الجمال في تلك النصوص.
وكي لا يفوتنا أن نذكر أن الناقد أكد كثيرا على أن تعامله يقتصر على النص الأدبي وحده دون غيره، بمعنى أن الاشتغال النقدي يوجه إلى داخل النص لا عوالمه الخارجية المؤثرة بمؤلفه، هذا الأمر يخلِّص (الناقد/ المتلقي) من الدخول في أتون الانطباعية والذوقية الموجهة سلفا.
أما اهم مميزات هذا المشروع النقدي، نقول إن هناك كثيرا من الخصائص التي لا بد من ذكرها لهذا المشروع، وهي كالآتي:
السمة الأولى: ما يدعوه الناقد نفسه بـ(التشكيل). في محاولة الوصول إلى مشتركات كتابية بين النصوص الأدبية، يحاول جمع أكبر قدر من عينات إبداعية، عبر ما يمكننا أن نصطلح عليه بـ (التوافق الثيمي) بين النصوص، ولعل هذا التشكيل يكون جامعا بين شعراء تختلف تجاربهم الحياتية، لكنَّ همَّهم الكتابي توافق في ظرف دلالي واحد.
السمة الثانية: يمكن أن نطلق عليها بـ(الحرية النقدية). التي تحاول الانعتاق من محددات المناهج النقدية وقيودها الصارمة، ولا نعني هنا (الفوضى في التعامل مع النصوص)، بل محاولة إشغال الذائقة النقدية بأدق التفاصيل الجمالية، وهو ما يمكن أن يصطلح عليه بـ(التمرُّد المحبَّب) بعيدا عن مفاهيم مغرقة بالغرابة والتعويم لدى المتلقي.
السمة الثالثة: بلاغة التلقي. وتتم هذه العملية عبر تنقيب النصوص الأدبية وقراءتها أفقيا في محاولة لاستكشافها جماليا في مرحلة تالية، يتمثل هذا الأمر في عدم إهمال أي جزء من النص الأدبي، ما يتطلب بالضرورة مهارة عالية في (التلقي النّبيه) للنص الأدبي، الذي يمثل وعيا متقدما يردُّ الاعتبار لوجود النص الأدبي، وهنا لا بدَّ من ذكر محور يتداخل مع هذه السمة، وهو: (الذائقة الجمالية للنقد)، ما معناه توافر معمار ثقافي يرتكز على (ذائقة محايدة) تكونت نتيجة تراكم الفعل القرائي لكثير من النماذج الإبداعية.
السمة الرابعة: ما يمكن أن نصطلح عليه بـ(رؤيا العالم في الهامش والمسكوت عنه). قد ينحاز النص الأدبي لأنساقه المحيطة به، التي نشأ في إطارها، لكنه لا يبتعد عن محاكاة أنساقٍ مضمرةٍ همَّشها المتن المركزي، من هنا يقدم هذا المشروع رؤيته تجاه مثل هكذا نصوص، محاولا جرها لبقعة الضوء التي طالما أُزيح عنها بفعل تابوهات مركزية ثابتة، هذا الأمر يحيلنا لملمح آخر نجده في هذا المشروع واضحا وجليا يمكن أن نطلق عليه (تحفيز المخيلة)، فالكثير من التجارب الكتابية تقع في فخاخ الذائقة المركزية التي تسير أغلب النصوص، لتقبع فيما بعد بهامش (القراءة والتلقي) المركزيين.
هذه السمات وغيرها تشترك مع بعضها لتكوين لوحة نقدية، تؤكد أن النص وحدة مركزية ثابتة، ينطلق منها النقد ويعود إليها فيما بعدفي محاولة إظهار الجمالي المتجدد، والفني الخلاق.