إنَّ ظاهرة أدب مقاومة لم تتشكل حتى الآن, لأنَّ نوعية التعارض الثوري, مع النظام في الداخل, لم تصل بعد حد إفراز تلك الكتابة, فالتعارضات السياسيَّة تبقى طبقيَّة الجوهر, طبقاً لقوانين الديالكتيك الخاص والعام, في الصراعات الحياتيَّة, وتكون ذات نوعيات ودرجات. وفي الثقافة كانحياز وتضاد نلمس ذلك, وإنْ شذَّ مثل ما عن هذا المسار, فهو شذوذٌ وهميٌّ, إذ لا بدَّ أنْ نكتشف له جذوراً.
فمثلاً كلنا يعرف أنَّ ناظم حكمت كتب الكثير من الجيد من أشعاره في فترة سجنه الانفرادي الطويلة, إلا أنَّ هذا لا يعني أنَّ عطاءه الشعري قد تدفق فقط من منبع تفاؤله الذاتي, أو من ميتافيزيقيا الموهبة الروحي أو الإلهام, أو من توهجات الوعي كقائد ثوري عليه, في الهزائم والانحسارات ان يتمترس في ذاته. أنا شخصياً أعزو ذلك التواصل الإبداعي عنده, الى نهوض وهجوميَّة قوى الحث الثوري وطنياً وعالمياً, في الثلاثينيات والأربعينيات, وامتداداً الى الخمسينيات من واقع هذا
القرن.
والأهم إنَّ العامل الذاتي لأرضية الشاعر, وحيوية الشارع التركي سياسياً وتقدمياً آنذاك, والذي ما زال يكتنز تحفزه وإرادته وتحدياته الثوريَّة ضد الأمبرياليَّة والرجعيَّة الداخليَّة والبرجوازيَّة التي راحت تخطو صوب خيانة الوطن, فموجبات الرفد الجماعي الروحي, كانت تمدّ الشاعر بمستلزمات التواصل الإبداعي, ذاتياً والترابط الإبداعي موضوعياً.
ما أودُّ أنْ أثبته أنَّ ليس جميع الهزائم سلبيَّة المردود, بل هناك هزائم إيجابيَّة في نتائجها الروحيَّة والعقليَّة التي قد تثير العميق من التحدي وتصقل الإصرار الثوري, وتجوهر نوعياً الطاقات الفاعلة باتجاه الإعلاء الجماهيري, رغم التدحرج صوب قاع الانحسار والخسارة.
إنَّ هزائم كهذه نتوقع منها أنْ ترفد عمليات الإبداع الثقافي والفني, أما الهزائم التي تأخذنا صوب التدهور, في مهاوي السلبي وتمزقنا في ذواتنا وتشيع البلبلة والتضبيب في المدارك والمخيلة حد ألا نجد أنفسنا في مطافها, إلا ونحن في دوامة العطل والضياع والخمود الروحي, فهي دائماً هزائم ظلاميَّة لأنها تسلب الكثير من توهجات وعينا وألق دواخلنا, وترمينا في الاجترار البليد وتبعدنا عن
الغد.
وأنا حين أشخص واقعنا العراقي المر بهذه الصراحة, التي قد تجرح المتفائلين, لا أقصد الوقوف بتشاؤم واستسلام وتفرج, بل أنا دائماً أصيغ صراحتي بطعم الاستنهاض والنخوة والتحريض, عبر الدعوة الى التعرف عليه واكتشافه للبدء منه وتخطي الأوضاع بجدليَّة ثوريَّة تكفل لنا التطهر من السلبيات, وتدفعنا صوب أهدافنا التقدميَّة عبر التخلص من خدع الذات ولعبة زج الآخرين في واهمة إظهار الواقع لهم كما نتمناه, أو كما نصر على تزويقه, لا كما هو عليه كي نديم تعمية بصيرتهم وننجو من
المسؤولية.
