دويتو المبارزة الخاسرة

ثقافة 2021/03/30
...

د. نصير جابر   
 
الثنائيات الغنائية أو ما يعرف في عالم الغناء والموسيقى بـ (الدويتو) فن قديم قِدم الغناء نفسه، يشترك فيه مطربان لتأدية أغنية واحدة لها مواصفات فنية خاصة تحتمل أن تؤدى بالاشتراك، ففيها ما يشبه الحوار أو المحادثة، وقد اشتهرت في تاريخنا الغنائي ثنائيات غنائية منذ بدء توثيقه مثل: (جواد وادي وعبد الواحد جمعة) و(جويسم كاظم وكريري محمد) وغيرهم. 
وهناك ثنائيات طربية نادرة أخرى وهي محلّ اهتمامنا هنا وأقصد بها اشتراك مطرب ومطربة في اداء واحد مشترك، فهي كما يبدو لي فرصة نادرة للباحث في النسوية لأنّها -أي الأغنية- حوار إشهاري معلن يتحاور ويتصارع فيه رجل وامرأة بوصفهما (ند.. لند) وعلى الرغم من أن كلام هذه الأغاني عادة يكتبه شاعر (رجل) لكننا سنفترض أنه تقمص لحظة الكتابة دور المرأة واستبطن دواخلها محاولا التعبير عن عالمها من خلال ما يمليه عليه واقعه ووعيه وثقافته لحظة انتاج النص. فهو هنا يقول ما يقوله مجتمعه وبيئته سواء أكان واعيا لذلك أم لا، ومن أقدم هذه الثنائيات المعروفة (ريم محمود وداخل حسن) في أغنيتهما الشهيرة (لو رايد عشرتي وياك)، والمتمعن في الأغنية سيلاحظ أن الرجل (داخل) هو الذي بدأ بطرح نفسه أولا وكأن المخرج أو المشرف على الأغنية لم يكن يتقبّل أن تبدأ المرأة (ريم) فيكون لها السبق أو على الأقل أن يشتركا معا وبصوت واحد في غناء مطلع الأغنية التي تدور حول عتاب تقليدي شائع بين العشاق عن أهمية الصدق في الحب وضرورة أن يكون العشاق في منتهى الأمانة لتبدأ الأغنية بنهي واضح واستعلائية سافرة:
(لو رايد عشرتي وياك حجي الجذب لا تطريه)
وهو اتهام للطرف المقابل (المرأة) بأن تترك الكذب والمماطلة ولكي لا نذهب بعيدا في تأويل المعنى واعتساف ما لا يتحمله النص الغنائي البسيط والعذب نكتفي بأن نقول إن ريم محمود بدت تابعة في ترديد ما يقوله داخل وحينما وصلها الدور قالت بتوسل:
(أنشد ولو ينگال بالنشد ذلة... وشكر حكمه يصير اليچفي خله)
والأغنية تبقى تدور في مسارات الحب واللهفة والخذلان مع لحاظ أن كمية الشجن والتوجع فيها كبيرة جدا مثل أغلب الغناء العراقي والريفي منه خاصة.
وبعدهما بسنوات طويلة ظهر الثنائي فؤاد سالم وشوقية العطار في واحدة من أجمل الأغاني العراقية الحديثة التي تمثلت الروح الحرّة لجيل آخر مختلف عن جيل ريم وداخل، فقد سجّلت هذه الأغنية في لحظة تاريخية نادرة هي لحظة هيمنة اليسار العراقي ثقافيا ومعرفيا برموزه العالية المؤثرة، وهي لحظة وفسحة سرعان ما تلاشت حينما أبيد ذلك الصوت المتمدن الهادر. 
لذا جاءت (ياعشگنا) التي كتب كلمتها الشاعر اليساري (كاظم الرويعي) ولحنها الموسيقار حميد البصري، وكأنها اعلان ووثيقة للرؤيا الانسانية التي يؤمن بها هؤلاء، فكانت تدور حول المشاركة في العمل واحترام الذات فلا أثر للخنوع أو التبعية فيها، وقد يحتج أحدهم بأنّ يقول إن موضوع الأغنية غير عاطفي والردّ هو أن ارهاصات المقارنة التي نبحث هنا عنها تبدو أكثر ظهورا في هذا النوع من الأغاني لأنّ الموضوع هو مشاركة في صنع حياة فأي هيمنة ذكورية ستبدو أكثر وضوحا ولكننا لا نلمح غير التماهي التام وعلو صوت المرأة المتحدي بنديّة عالية:
(خذني للمرواح عود خذني سن لمنجلك/ ومن يوج ضي الخدود شمعة وبديرة هلك)
لذا تبدو لي هذه الأغنية حالة نادرة في التكافؤ الفذ بين صوت الرجل وصوت المرأة، ولمن يمعن النظر خلف الكلمات وطريقة الأداء سيجد أن خلف ذلك كله وعي كبير؛ لذا لا غرابة أن يشرّد كل من شارك فيها فقد هرب حميد البصريّ وشوقية العطار إلى المنافي وسبقهما قبل ذلك فؤاد سالم ومات بعدهما الرويعي غريبا.
أما في ثمانينيات القمع الهائل الظاهر منه والباطن فقد كان لابد لهيمنة الطغيان والعسكرتاريا والتعبوية أن تظهر في ملامح الحياة كلّها، ومنها الغناء لذا ظهر الدويتو (مي ووحيد) في سلسلة من الأغاني ذات الايقاع السريع التي دارت كلّها في فلك واحد هو الحب ولكن بنسخته الشرقية الخانعة. إذ غاب تماما صوت المرأة ومُسخ كيانها وبدت مجرد دمية جميلة تعاتب حبيبها لأن سائق السيارة تأخر عن موعده في أغنية 
(يا سايق السيارة) أو تطلب من (ميل) الساعة أن يسرع بحركته لأنها تنتظر موعدا مع حبيبها في (استعجل يميل الساعة) وعلى هذا المنوال ضاع الصوت النسوي المتحدي وظهر صوت الشارع بسوقية واضحة ومبالغات 
فجة.