وهم التميّز

آراء 2021/03/30
...

 عطية مسوح *
 نجد في الحياة الثقافيّة والسياسيّة والفكريّة تيّارات ومذاهب. وإزاء هذا التنوّع يظهر نوعان من الباحثين والمفكرين، فالباحث الموضوعيّ المتعمّق، حتى إذا كان منتمياً، يستطيع أن يرى الخيوط الدقيقة التي تصلُ بين التيّارات والمذاهب الفكريّة والسياسيّة المختلفة، أمّا النوع الآخر من الباحثين فهم المتشدّدون في انتمائهم إلى تيّار معيّن، فقد يصل بهم التشدّد إلى تكوين عقليّ تصنيفيّ، فينظرون إلى تلك التيّارات والمذاهب على أنّها بنى مغلقة وبؤرٌ منفصلة لا تواصل بينها ولا صلات. إنّ العقليّة التصنيفيّة والمنهج التصنيفيّ قد يدفعان بالتناقضات بين التيّارات والاتّجاهات إلى الحدّ الأقصى أو حدّ الإطلاق، بدلاً من النظر إليها بوصفها تنوّعاً في إطار الوحدة . وواضحٌ أنّ العقل والمنهج التصنيفيّين سيوصلان إلى علاقة غير تواصليّة بين الأطراف، علاقةٍ تقوم على الحذر والتوجّس، وتصل في كثير من الأحيان إلى الانغلاق والتقوقع على الذات ورفض الآخر، فيضعف التفاعل الثقافيّ، وتغدو ثقافة المجتمع هشّة محطّمة الأجنحة، وهذا ما يسهم في إغراق المجتمع في وهاد التخلف، كما هي حال مجتمعاتنا العربيّة مع الأسف. 
 ويقترن الانغلاق الناتج عن العقليّة التصنيفيّة باليقينيّة. وهي تعني أن يتوهّم مفكّر أو جماعة أو حزب أو تيّار أنّه على صواب مطلق، أو أن ينظر إلى فكرة يتبنّاها بأنّها كاملة الصحّة لا تقبل النقض والنقاش . ولا تكون حصيلة اجتماع الانغلاق واليقينيّة إلاّ الجمود. فاليقينيّ لا يتعامل مع الأفكار التي يحملها تعاملاً نقديّاً، أي إنه لا يبحث عن نقاط الضعف فيها، ولا يسعى إلى تدقيقها بالمقارنة مع الواقع وتطوّراته، كما أنه لا يسعى إلى دراسة أفكار التيّارات الأخرى والبحث عمّا قد يكون فيها من صواب والتفاعل معه . 
اليقينيّ لا ينظر إلى الفكر الفلسفيّ والاجتماعيّ بوصفه ابن الحياة، ولا يربط بينه وبين تجدّد الحياة الدؤوب والمتواصل، وبالتالي فإنّه لا يصل إلى ضرورة عدم الوقوع في النصّيّة، لأنه لا يدرك أنّ النصّيّة تقتل حيويّة الفكرة. ولعلّ من المفيد في هذا المجال أن نتطرّق إلى علاقة الفكرة بالنصّ، والنصّ بالواقع، والفكرةِ بالواقع. إنّ الفكرة التي يصل إليها المفكّر أو الفيلسوف نتيجة تأمّل الواقع ودراسته يضعها في نصّ، وإذا أنعمنا النظر، فسنجد أنّ الفكرة دخلت في سجن النصّ منذ أن صيغت، والنصّ ثابت، أمّا الواقع الذي وُلِدت فيه الفكرة فهو متغيّر لا ثبات فيه، وبالتالي، فإنّ الفكرة تبدأ بالتناقض مع الواقع منذ دخولها سجن النصّ. 
 قلنا: لا ثبات في الواقع.. وهذا لا يبدو واضحاً باستمرار، فالحركة قد تكون سريعة واضحة، أو بطيئة في بعض الأحيان والمجالات، وقد يكون بطؤها شديداً فيبدو الأمر شبيهاً بالثبات أو السكون، لكنّ الحركة هي قانون الواقع وديدن الحياة. من هنا جاء قولنا إنّ الفكرة تبدأ بالتناقض مع الواقع منذ دخولها سجن النصّ، ومنه نستنتج أنّ الفكر في حاجة إلى مراجعة وتدقيق على الدوام، وهذا بالذات ما يُبطل اليقينيّة ويكشف ضررها . قلنا إنّ اجتماع الانغلاق واليقينيّة يؤدّي إلى الجمود، ولكنّ ثمّة نتيجة أخرى لهذا الاجتماع، وهي الإحساس بالتميّز. وهو وهمٌ مَرَضيّ يشكلّ خطراً على المجتمع ويؤدّي إلى الكثير من المآسي، وهذا ما حدث في مجتمعاتنا العربيّة . نعم، إنّ وهم التميّز هو تحصيلٌ حاصلٌ من وهمَي الانغلاق واليقينيّة. فاليقينيّ المنغلق لا يقبل بعلاقة تكافؤ مع الآخرين لأنه مقتنع بتفوّقه ورفعته. وبالتالي، فهو يرفض أن يتبادل التفاعل والتأثير، ويريد أن يكون فاعلاً ومؤثّراً فقط. ولأنّه يقينيّ ومنغلق وجامد فإنّه سيغدو – على التدريج - أدنى مستوى من سواه، معرفة وخبرة ومهارة، وهو مع تدنّي مستواه، يُحسّ بالتفوّق والتميّز، وهذا هو الوهم المرضيّ الخطير. 
 ولعلّ تذكّر المفردات التي درجت بعض الحركات السياسيّة والفكريّة على استخدامها في وصف ذاتها، في القرن العشرين، ولا يزال بعضها يستخدمها إلى اليوم (وإن كان بريقها قد خفتَ إلى حدّ كبير)، مثل كلمة (الطليعة)، أو عبارة (الطليعة الثوريّة) أو (الطليعة الواعية) وغير ذلك، أقول لعلّ هذه المفردات والعبارات تعطينا صورة لدرجة الإحساس بالتميّز، الذي هو غرور فارغ ونرجسيّة مؤذية. وقد وصل الأمر ببعض هذه الحركات إلى درجة وصف الذات وصفاً تمييزيّاً فجّاً، كادّعائها بأنّها تمثّل ضمير الأمّة أو عقلها الواعي، وبأنّها هي الوحيدة المؤهّلة لقيادة الأمّة، وغير ذلك من الكلمات والعبارات المرَضيّة.
 إنّ وهم التميّز يؤدّي في الممارسة العمليّة إلى نشر ثقافة التميّز على نطاق عام، فيغدو التنافس أو الصراع في المجتمع صراعاً بين ذوات مغرورة متعالية تتوهّم كلّ منها بأنّها المتميّزة والمتفوّقة، وكلنا نعلم ونشهد كم حصدت مجتمعاتنا العربيّة من الأذى بسبب هذه الثقافة ! حين تنتشر الثقافة التمييزيّة وتطغى على ما عداها، كما هي الحال عندنا، تؤدّي إلى بناء ذوات غير سويّة، ومجتمع هشّ ضعيف. فلعلّنا نعرف كم كان ضارّاً أن نقول لطفلنا أو شابّنا مثلاً: إنّ أسرتك أفضل الأسر أو عشيرتك أنبل العشائر، أو مذهبك أصوب المذاهب، أو حزبك أفضل الأحزاب، فإنّ هذه التربية لا بدّ أن تؤدّي، بل أدّت فعلاً، إلى تكوين شابّ يتوهّم أنّه خير من سواه، وسيكون غير عادل في رؤاه وأحكامه وسلوكه. 
 *كاتب وباحث من سوريا