«مرصد المناعة».. الكشف عن الفيروسات قبل تسببها بجائحة
منصة
2021/04/05
+A
-A
فيرونيك غرينوود
ترجمة: أنيس الصفار
في الصيف الماضي عقد الدكتور مايكل مينا اتفاقاً مع شركة متخصصة بالخزن المبرّد. فبعد أن أغلقت المطاعم من زبائن الشركة أبوابها أصبح لديها فائض من غرف التجميد خارج العمل، أما الدكتور مينا، المتخصص في علم الأوبئة من كلية هارفرد تي أتش شان للصحة العامة، فقد كان لديه نصف مليون قارورة من البلازما، المأخوذة من دم بشري وردت الى مختبره من مناطق البلاد المختلفة، وهي عينات يرجع تاريخها الى أيام الرخاء في شهر كانون الثاني 2020.
مرصد عالمي
هذه القوارير، المودعة حالياً في ثلاث غرف تجميد عملاقة خارج مختبر الدكتور مينا، هي قلب مشروع تجريبي يسميه هو ومعاونوه «مرصد المناعة العالمي». يسعى هؤلاء الباحثون الى إنشاء منظومة رقابة واسعة شاملة بوسعها فحص عينات الدم الوافدة إليها من أي مكان في العالم بحثاً عن الأجسام المضادة لمئات الفيروسات في وقتٍ واحد. وعندما يجتاح عالمنا وباءٌ جديد في المرة المقبلة سيتمكن العلماء بأسرع وقتٍ من الحصول على معلومات تفصيليَّة حول أعداد المصابين بالفيروس وكيفيَّة استجابة أجسامهم له.
هذا المرصد قد يصبح بوسعه حتى إطلاق إنذارٍ مبكرٍ مثلما تفعل منظومة التحذير من الاعاصير. ورغم أنَّ المنظومة لن تستطيع الكشف عن الفيروسات الجديدة أو سلالاتها المتحولة بطريقة مباشرة فهي قادرة على إطلاق إشارة تنبيه حين تبدأ اعداد كبيرة من الناس باكتساب المناعة تجاه نوع معين من الفيروسات.
جهاز المناعة لدى الإنسان يحتفظ بسجلٍ يثبت فيه جميع مسببات الأمراض التي سبق أنْ واجهها في حياته، ويكون التسجيل بصورة الأجسام المضادة التي تصدت لتلك المسببات وقاومتها. هذا السجل يبقى معك مدى الحياة، وعندما يجري العلماء اختباراً للبحث عن تلك الأجسام المضادة تظهر لهم لقطات سريعة دالة على جميع أنواع الفيروسات التي تعرضت لها في حياتك منذ الطفولة. حتى العدوى التي لا تمرضك سيمكن التقاطها وتشخيصها بهذه الطريقة المسماة «فحص المصل أو الفحص السيرولوجي».
يقول الدكتور مينا إنَّ كلاً منا عبارة عن جهاز تسجيل صغير يحتفظ من دون أنْ يدري بتاريخٍ ممتدٍ من الفيروسات.
تحري الأنماط
هذا الأسلوب في استقراء جهاز المناعة يختلف من حيث طبيعته عن فحص تحري وجود إصابة نشطة بالفيروس ذاته. فنظام المناعة يبدأ بإنتاج الأجسام المضادة بعد مضي أسبوعٍ أو أسبوعين على وقوع الإصابة، لذا فإنَّ فحص المصل هو عملية تحرٍّ بأثرٍ رجعي لمعرفة ما الذي أصابك. المسألة الأخرى هي أنَّ الفيروسات الوثيقة القرب من بعضها يمكن أنْ تتسبب باستجابات متشابهة، وهذا يحفز الأجسام المضادة القادرة على الارتباط بالنوع نفسه من البروتينات الفيروسيَّة. معنى ذلك أننا نحتاج الى فحوصٍ مصممة بعناية، بحيث يمكنها التمييز بين الأنواع المختلفة من فيروسات كورونا مثلاً.
بيد أنَّ فحص المصل يكشف هو الآخر عن أشياءٍ لا يتمكن اختبار الفيروس من كشفها. فحين تتكامل قاعدة بيانات واسعة من النماذج والتفاصيل السريريَّة يصبح بإمكان العلماء رؤية أنماط تتشكل في كيفيَّة استجابة النظام المناعي لدى شخص لا يعاني من أية أعراض مقارنة بآخر يناضل جسمه للتخلص من الفيروس. حتى من قبل حدوث التفشي يكشف فحص المصل ايضاً إنْ كانت لدى مجتمع معين مناعة نشطة تجاه فيروس محدد، أم أنَّ مناعته ضعيفة الى حدود تنذر بالخطر.
هذا الأسلوب من شأنه أيضاً الكشف عن وقائع تتعلق بالنظام البيئي للفيروس لم يكن بالوسع ملاحظتها لولاه. ففي العام 2015 مثلاً شعر الأطباء بتفشي وباء زيكا في البرازيل عندما لاحظوا أنَّ هناك زمراً من الأطفال يولدون برؤوس أصغر من الحجم الطبيعي بعد سبعة أو تسعة أشهر من إصابة أمهاتهم بالفيروس. يقول الدكتور «ديريك كامنغز»، وهو عالم أوبئة من جامعة فلوريدا: «أعتقد أننا كنا سنشعر بالأمر قبل حدوثه لو كان لدينا مرصدٌ لفحص المصل يومها».
نظام مسح مؤتمت
عمليات المسح السيرولوجية تكون ضيقة النطاق وصعبة التحضير غالباً لأنها تتطلب سحب عينات دم من المتطوعين، ولكنَّ الدكتور مينا وزملاءه طرحوا فكرة إنشاء نظام مسح مؤتمت يستخدم عينات الدم المتخلفة من فحوص الدم المختبريَّة الروتينيَّة.
يقول الدكتور مينا: «لو كنا انشأنا نظام المسح هذا في العام 2019 عندما ضرب الفيروس الولايات المتحدة فربما كنا سنحصل على مصدر بيانات جاهز يمكننا بلا جهد من ملاحظة الفيروس وهو يتمدد انتشاراً في مدينة نيويورك مثلاً».
من غير المتوقع أنَّ مرصد المناعة كان سيلتقط فيروس كورونا الجديد عند أول ظهوره، ولكنه مع هذا كان سيكشف لنا وجود ارتفاعٍ غير اعتيادي في أعداد الإصابات بفعل فيروس ما من عائلة كورونا نفسها، وربما كان سيظهر لنا ايضاً أنَّ فيروس كورونا الجديد آخذ بالتفاعل مع أنظمة المناعة، وهذه المؤشرات كلها كانت ستترك في الدم دلائل تشي بوجوده. لو حدث هذا لأمكن إعطاء إشارة البدء بتتبع التسلسل الجيني للعينات المأخوذة من المرضى من أجل تشخيص المسبب المسؤول، وربما كان سيمهد الأرضية لإغلاق المدينة في وقت أسبق.
استثمار في محلّه
مرصد المناعة المشار إليه سيتطلب إجراء اتفاقات مع المستشفيات ومصارف الدم وغيرها من المصادر التي يمكن الحصول منها على عينات الدم، وسيتطلب أيضاً نظاماً للحصول على موافقة المرضى والمتبرعين بالدم.
سوف يواجه المرصد ايضاً مشكلة التمويل، كما يشير «أليكس غرنيغر» وهو عالم فيروسات من جامعة واشنطن، ولا يتوقع أنْ تسهم شركات التأمين الصحي في تغطية هذه التكاليف. يقدر الدكتور مينا كلفة مرصد المناعة بنحو 100 مليون دولار لمرحلة الشروع فقط، ويشير الى أنَّ الحكومة الفيدرالية قد خصصت حسب تقديراته ضعفي هذا المبلغ لشركة التشخيص «إيلومي» من أجل تنفيذ اختبارات «كوفيد» بالسرعة الكافية لتغطية الاحتياجات الأميركية لأيام معدودة.
يشبّه الدكتور مينا مرصد المناعة بمنظومة أنواء جوية تستند في عملها الى ما يتجمع لديها من قراءات تلتقطها مستشعرات وعوّامات هائلة العدد تنبئنا متى وكيف ستقع الأحداث، لكن منظومات الأنواء تتلقى تمويلاً حكومياً ومنحاً وهي تحظى بتقييم عالٍ.
القدرة التنبؤية لمنظومة الفحص السيرولوجي تستحق ما ينفق فيها من أموال، كما تقول «جيسيكا ميتكلاف» وهي عالمة أوبئة من جامعة برنستون ومن أعضاء فريق مرصد المناعة. قبل بضع سنوات اكتشفت ميتكلاف وزملاؤها أثناء إجراء عملية مسح محدودة النطاق في مدغشقر أنَّ المناعة من مرض الحصبة كانت منخفضة الى درجة خطرة. وبالفعل، مات أكثر من 10 آلاف طفل عندما تفشى مرض الحصبة هناك في العام 2018.
لقد بدأ العمل الآن لإخضاع نصف مليون عينة مصل يحتفظ بها الدكتور مينا في غرف التجميد، التي جمعها عبر شركة «أوكتوفارما» من مختلف مناطق الولايات المتحدة في السنة الماضية، لفحوص سيرولوجيَّة تركز على فيروس كورونا الجديد وتتلقى التمويل من منحة قدمتها مؤسسة «العمل الخيري المفتوح» مقدارها مليونا دولار. أما عملية الفحص فعليها الانتظار لحين تمكن الباحثين من إقامة منشأة فحص روبوتيَّة جديدة لمعالجة العينات، وهم الآن يواصلون العمل على دفعاتهم الأولى.
يأمل أعضاء الفريق أنْ تكشف لهم البيانات كيفيَّة تحرك الفيروس في الولايات المتحدة أسبوعاً بعد أسبوع وكيف تتطور المناعة وتتغير بمواجهة فيروس كوفيد. كذلك يأملون أنْ يشحذ ذلك الاهتمام بالطرق السيرولوجية لتسليط الضوء على تحركات العديد من الفيروسات الأخرى.
عن صحيفة
«نيويورك تايمز» الأميركية