رؤية سياسيّة

آراء 2021/05/17
...

 صلاح حسن الموسوي
يذكر العالم لوسيان باي (بأن احضار عدد كبير من الناس الى الحياة الحضرية يعني دائما اشراكهم في شكل من اشكال المشاركة السياسية، هل ستكون مشاركة بناءة او هدامة؟، فإذا امكن تنفيذ هذه العملية من دون حدوث اغتراب او عواقب مدمرة, فان الدولة يمكن أن تستفيد استفادة سريعة بزيادة عدد مواطنيها, اما اذا افسد العملية, [الصراع او التوتر], فمن الممكن ان تبقى بعض الندوب الدائمة على الدولة, وتصبح مصدرا مستمرا للمتاعب في وجه السير الفعال للعملية السياسية).
 
يكمن اصل التضارب او الصراع في مدى قابلية مؤسسات الريف (الطبيعية والفطرية) مثل (الاسرة الممتدة، العشيرة، القبيلة) المحكومة بقيّم السلوك الشعبي والأعراف, للاستجابة الى شروط المجتمع المدني التعاقدي الذي تسود فيه قيم المنفعة وتحكمه القوانين، خاصة ان منظمات المجتمع المدني مثل (المدارس والجامعات، والمؤسسات الدينية والعسكرية، والسلطات التشريعية والقضائية، والأحزاب السياسية) تمثل وسيلة الشخص الريفي القادم الى المدينة لصعود سلالم الهرم الاجتماعي بقصد تغيير المنزلة الاجتماعية او الوضعية الطبقية عبر الحراك الأفقي (تغيير المهنة) او العمودي (التحوّل الطبقي)، اذ يتسم الوسط الريفي بالركود والجمود تجاه هذه التحولات.
   ووفق هذه المعطيات فان العراق قد شهد بعد تأسيس دولته الحديثة عام 1921موجات متعاقبة من الهجرات الريفية الى المدن الكبرى وخاصة العاصمة بغداد, وكانت معظمها قسرية فرضتها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية غير الملائمة، وكانت ابرز هذه الهجرات هجرة اهالي ريف جنوب العراق الى العاصمة بغداد بعد انشاء سدة الكوت عام 1935 وتسببها بقطع  مصادر المياه عن القرى في مناطق العمارة والكوت, فضلا عن قسوة اقطاع تلك المناطق المعتمدة بشكل اساسي في اقتصادها على مهنة زراعة الرز المضنية, ومن الهجرات المهمة بعد قيام العهد الجمهوري, الهجرة الطوعية الى المدن في منتصف التسعينيات بعد الانتعاش النفطي ومشاريع الدولة الريعية التي سارت بنهج العسكرة الواسعة للمجتمع, ما ادى الى توجيه ضربات قوية للبنية الريفية واستنزاف قدراتها الزراعية وطاقاتها البشرية، وبعد حرب الكويت اقدم النظام الحاكم آنذاك على تجفيف مناطق الأهوار بدواع امنية ما ادى بسكانها الى الرحيل الجماعي صوب المدن العراقية القريبة والبعيدة.
   يشير تاريخ العراق الحديث الى ان البريطانيين الذين اسهموا بتأسيس الدولة العراقية الحديثة على غرار النظم السياسية الحديثة في الغرب, تعاملوا بانتقائية مع لوازم التنظيم والحداثة المطلوبة في بناء الدولة بما يتناسب ومصالحهم الاستعمارية الآنية والستراتيجية, فقد فضّلوا التعامل مع شيوخ العشائر وسهلوا لهم الوصول الى مراكز الثروة والسلطة, عبر اقطاعهم مساحات واسعة من الأراضي الزراعية, وادخالهم الى عمق السياسة من خلال مجلسي النواب والأعيان, ومن جانب اخر عمل الإنكليز على تهميش النخب المدينية بسبب انحياز معظم هؤلاء الى الدولة العثمانية التي كانوا يستمدون منها الدعم لمراكزهم الاجتماعية وامتيازاتهم الاقتصادية, ومع وجود ما ينطبق عليه وصف (هياكل مؤسسات ديمقراطية) ابان الحكم الملكي, ظلت البنى الاسرية والعشائرية محافظة على الكثير من عزها وقوتها, ولم تتبين خيوط لعقد اجتماعي حضاري يكسر صلادة هذه البنى ويقارب بين السلطة الملكية والغالبية العظمى من الشعب بسبب شخصنة الدولة من قبل رموز العهد الملكي, وخشية القوى المندمجة مع المصالح البريطانية من ولادة مجتمع مدني حديث في
 العراق.
وبحسب رأي المفكر ابراهيم العجلوني, فان تعريف النظام السياسي يعني: جميع الفعاليات السياسية في البلاد, اي يشمل السلطة والمعارضة, وقد اسهم نشوء الأحزاب الوطنية المعارضة بشكل ايجابي في تحريك المجتمع العراقي واستيعاب مطالب وحاجات مختلف الشرائح الاجتماعية, ومن بينها جموع المهاجرين الريفيين الذين استقروا في المدن, وعملت الأحزاب الوطنية على دمج مطالبهم ضمن الحراك السياسي الوطني العام، والذي كان يتمظهر بواسطة التظاهرات والانتفاضات الشعبية تمهيدا لقيام التغيير الثوري في 14 تموز عام 1958.
   ان المتتبع لتاريخ العراق الحديث لا يمكنه الا ان يدهش ازاء النماء الذي عرفته الحركة الجماهيرية في الأربعينيات والخمسينيات (تلك الحركات المدنية لأبناء الفئات الوسطى والعامة), مقارنة بالجدب الذي لحق بهذه الفئات والحركات ابتداءً من الستينيات، وانتقال مركز الثقل السياسي الى الريف، اذ شهدت مرحلة ما بعد انقلاب 1963هيمنة على الحكم من قبل ابناء القرى والبلدات الصغيرة في المثلث العربي الواقع شمال بغداد، وقد شغلوا ما نسبته63% من المناصب الوزارية ايام الأخوين عارف, و75% في السبع سنوات الأولى لحكم البعث والذي جسد مجيئه الى الحكم بعد انقلاب 1968 حدثا مهما, اذ التقت النخبة العسكرية المسيطرة مع نظيرتها المدنية للحزب المنحدرة من ذات الجغرافيا المناطقية، ما كشف البناء السياسي العراقي لاختراق سماه الكاتب حسن العلوي (دولة المنظمة السرية) المستندة في اصول تنظيمها على قوة رابطة الدم وبما يشبه عمل مافيات الريف الإيطالي، اذ خيمت على العراق حقبة استبدادية سوداء غير مسبوقة قضت على النسيج الراقي للمجتمع العراقي بعد تحطيم الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية المستقلة، وقتل وتشريد الآلاف من نخب وملاكات المجتمع السياسية والثقافية والعلمية، لقد اسهمت العقوبات الاقتصادية الدولية التي سبقت سقوط نظام البعث عام 2003, بانتعاش المنظومات الاجتماعية الفرعية (العشيرة, الطائفة) واندفاعها الى واجهة المجتمع العراقي بقوة, وذلك باعتبارها آليات دفاع فاعلة عن الفرد بعد تفسخ مؤسسات الدولة وتآكل قدراتها وفساد السلطة التنفيذية وضعف السلطة القضائية وانتشار البؤس المعاشي والفقر الشديد, وقد افرز هذا الحال بالاشتراك مع الاحتلال العسكري الأجنبي نظاما جديدا للحكم يرتكز على قاعدة للتحالف ( القبلي - الطائفي) الذي لا يستغني عن الحضور الدائم للراعي الأجنبي بعده (ثالث اثافي) قاعدة الحكم, وليس من الصعب تمييز متانة خيوط هذا التحالف عبر النظرة السريعة لنتائج الانتخابات الدورية البرلمانية والمحلية, اضافة الى الاهتمام والرعاية التي يوليها كبار قادة الحكم الحالي للمؤتمرات والفعاليات العشائرية قياسا بالنشاطات المدنية, من جانب اخر يكشف المحتوى الاجتماعي للمنظمات المسلحة التي تواصل حضورها خارج السلطة الفعلية للدولة العراقية عن اصول ريفية وهجرة حديثة للمدينة للغالبية الساحقة من منتسبيها، وذلك لان التجمعات اللارسمية هي اكثر ارضاءً واقرب الى القادم الجديد للمدينة, وقد لا تكون منظمة بالضرورة، بمعنى ان تكون لها مواثيق وواجبات وقواعد وتعليمات, ولكنها يمكن ان تكون فعالة كل الفاعلية على اساس منظمات المساعدة المتبادلة سواءً المؤقتة او الدائمة.
 ولا شك ان النقص الشديد في الدراية بأسباب القوة والاقتراب منها يدفع المهاجر الى الانتماء لجماعات المساعدة المتبادلة هذه, وكما قال ريتشارد مورس في هذا الصدد «ان الهوة بين الأنظمة البيروقراطية الحضرية والخلفية الزراعية للمهاجرين من الضخامة بحيث لا نتوقع حدوث توافق بينهما الا بعد ان يكتل المهاجرون انفسهم في صورة اتحادات عارضة تكون لهذا الغرض بالذات, وتخضع بقدر الإمكان لقيادة 
فاهمة».