د.حسن عبيد عيسى
كانت رزيَّتُنا نحن المثقفين، المتجسدة بوفاة الباحث الدكتور علي الفتال كبيرة، فالرجل الذي قضى عمراً تجاوز الثمانين، جعل الثقافة شغله الشاغل وهمه الأكبر وعمله الدؤوب، وكان طموحه الأكبر يتمثل باستمراره في إنتاج الفكر والإبداع وبثّه في ما يتيسر له من قنوات اتصال، لذا فلقد ألّف عشرات الكتب، مخطوطها أكثر من مطبوعها، وألقى مئات المحاضرات ونظم مئات القصائد وكان لا يقدّم في كل ذلك الا ما هو جديد وأصيل، وكثيراً ما يثير طرحه الجدل بين متلقيه لأهمية محتواه الفكري، لذا استحق وعن جدارة موقع الريادة في أكثر من مجال بحثي. وكان من أبسط حقوقه على المستفيدين من علمه أنهم جعلوه مادة لبحوثهم الأكاديمية فكتبوا عنه الرسائل العلمية والأبحاث الأكاديمية، ونالوا بما كتبوا الدرجات العلى في مجالات اختصاصهم.
ولأنَّ فقيدنا رحمه الله تعالى وليد وسط شعبي مترع بالموروث المتصل بحضارات العراق القديمة، فإنَّ عقله وخياله كان متخماً بذلك الموروث الرائع، ما ترك أثراً محموداً في ذاته ليصير التراث أحد أكبر اهتماماته الفكرية.
ولأنه أسهم في توثيق تراثنا الشعبي بأسوب الباحث المحقق المتمكن من أدواته والمُحب لعمله الفكري، فلقد آثرنا تناول أحد الكتب التي خلفها الراحل للأجيال التالية لتتعلم منه وتتذكره بما يستحق من تقدير واحترام ونلقي على هذا الأثر نظرة فاحصة لا تفيه حقه لقصرها.
فالكتاب الذي بين أيدينا هو (التواصل في تراثنا الشعبي - كربلاء أنموذجاً) الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة سنة 2005، وهو كتاب له خصوصية لا يدركها إلا متخصص في كل من التراث الشعبي العراقي وفي تاريخ الحضارات العراقية القديمة، فلقد رصد المرحوم الفتال ظواهر الموروث الشعبي في منطقة شعبية، تلك التي رأى النور بين جدران بيوتها، كما أسلفنا، وشمّ وذاق واستطعم روائح ونكهة ذلك الموروث الجميل، حتى تخصص فيه فصيّرها أنموذجاً لعمله الجاد هذا.
ولأنه مثقف موسوعي لا حدود لاهتماماته الثقافية والإبداعية فإنه درس بعمق وحب تاريخ عراقنا الحبيب في أزمان ولادات الحضارات الأرقى التي صارت أمّات الحضارات العالمية المعاصرة، فلقد تلمس بأنامل الخبير الحاذق الخيوط التي توصل هذا الموروث الممتع الجميل بذاك التاريخ العريق الأصيل، وهي مهمة قد تبدو سهلة، ولكنها من نوع السهل الممتنع، إذ لا يقدر عليه إلا من ألم بأطرافه كلها.
فهو لم يترك ظاهرة أو فعلاً أو قولاً أو حكاية أو كناية إلا وأعادها الى أصلها الذي ربما هو سومري أو أكدي أو كلداني أو آشوري أو آرامي، من هنا يبدو الإبداع الحقيقي الذي لا يتأتى لأي كان، فكم يا ترى درس من كتب تاريخنا القديم حتى وقف على أسرار ذلك التواصل من الموروث المعاش مع تلك الحضارات المغرقة في الإبداع والقِدَم، ولعمري فإنَّ تلك القراءات ليست وليدة زمن إعداد هذا الكتاب، وإنما هي بعض الخزين الفكري الثر الذي يتمتع به فقيدنا، فلقد عرفته عن كثب، إذ كانت الصداقة التي أتشرف بأنها كانت تربطنا، صداقة عمر أساسها الثقافة، إذ قدمته في عددٍ كبيرٍ من المحافل الثقافية ليلقي محاضرات يتشوق اليها عارفو فضله الثقافي.
وكما عودنا الراحل، فإن اللغة التي صاغ بها كتابه هذا كما هي سائر مؤلفاته، لغة ساحرة تقود المتلقي راضياً مرضياً الى منابع علم الفتال، فهو لغوي مهن اللغة العربية تدريساً وبحثاً وتأليفاً، وتلك صفة شحَّت في عالمنا الثقافي الآن مع الأسف.
وحتى نقف على القدر الكبير من تواضع فقيدنا وإيثاره نجده يقول مصدِّراً كتابه هذا (وأنا بمحاولتي هذه لم أكن قد استكملت جوانب الموضوع، إنما سكبت نقطة ضوء في طريق الباحثين ليبدؤوا – لا غير- بالتحري وحده عن ذلك التراث، إنما بالبحث الدقيق والصبور عن جذوره التاريخية وعمقه الزمني في أغوار التاريخ عبر آلاف السنين)، فإذا ما علمنا أن نقطة الضوء التي سكبها ملأت أربعمئة وعشرين صفحة من القطع الكبير لعلمنا حجم الجهد المبذول وقدر التواضع الذي اتصف به.
أنزل الله تعالى شآبيب رحمته على الجدث الذي يضم بين جنبيه هذا البدن الذي أرهقه البحث والتأليف والتفكير، وجعل الدرجات العلى من جنانه دار إقامته.