الـﭽبايش.. الدراسة الأنثروبولوجية الأولى في العراق

آراء 2021/07/25
...

 د. يحيى حسين زامل 
الأهوار في العراق تلك الأماكن الساحرة والمناطق الخلابة التي جذبت الرحالة والمستكشفين والمغامرين، أمثال «ويلفريد ثيسيجر» وكتابه {عرب الأهوار}، و{كافن يونغ»، وكتابه {العودة إلى الأهوار}، و{هدجوك وزوجته»، وكتابهما {الحاج راكان..عرب الأهوار}، والأنثروبولوجي النرويجي «ثور هايردال» صاحب فكرة «اتصال الحضارات»، حين بنى سفينة القصب دجلة في العام 1977، منطلقاً بها من الأهوار نحو البحر الأحمر، وجذبت وسحرت أيضاً أنثروبولوجي عراقي هو البروفيسور «شاكر مصطفى سليم»، {1919-1985}
وهو أول أنثروبولوجي عراقي مارس هذا التخصص في العراق، فكانت أول دراسة أنثروبولوجية حقلية تعايش فيها الباحث مع سكان قرية {الـﭽبايش} في الأعوام {1956-1957}، وكأنه واحد منهم، فخرجت الدراسة بصورتها الكلية والمتكاملة، وتركت أثراً كبيراً في تاريخ الدراسات الأنثروبولوجية، ولتعد في ما بعد مثابة مهمة في سلسلة الدراسات الأنثروبولوجية 
العراقية.     
 
جغرافية الـﭽبايش
وجغرافياً «الـﭽبايش» هو أحد اقضية محافظة ذي قار، ويقع شرق مدينة الناصرية، وشمال غرب محافظة البصرة، ويقع مركز الـﭽبايش على هور الحمَّار قرب نهر الفرات ويبلغ عدد سكان القضاء نحو 150 الف نسمة بحسب تقديرات عام 2015م، والـﭽبايش هي جزر صناعية يتم عملها بعناية من طبقات الطمي والقصب والبردي، إذ يتم تكديس بعضها فوق بعض حتى تصبح مثل الجزيرة، وحينها تبنى عليها دور من القصب أو الصرايف، ويرجع نمط العيش هذا إلى الأقوام القديمة الساكنة في هذه الأماكن، ويرجعه البعض إلى نمط عيش «السومريين»، إذ عثر عليها في مدونات السومريين قبل سبعة آلاف عام، ومن الطريف أن السومريين  يعتقدون أن نشأة الأرض واليابسة كانت بهذه الطريقة 
نفسها. 
 
الإقامة الميدانية في مجتمع الدراسة
يقول البروفيسور «سليم» في كتابه محاضرات في الأنثروبولوجيا: «تهتم الأنثروبولوجيا الاجتماعية بصورة خاصة بالمجتمعات البدائية، وتشترط المدارس الحديثة في هذا العلم ولا سيما «المدرسة الوظيفية» أن يقيم الباحث الأنثروبولوجي مدة لا تقل عن سنة واحدة، وقد تطول إلى أكثر من ذلك، ونحن في العراق بحاجة ملحة إلى القيام بكثير من الدراسات الأنثروبولوجية لأن بلدنا يزخر بعدد كبير جداً من المجتمعات والشعوب المتأخرة»، ويضيف: «ولقد كان لي شرف السبق في القيام بأول دراسة أنثروبولوجية اجتماعية في العراق، فأخذت قرية «الـﭽبايش» كانموذج لسكان الأهوار الذين يقطنون جنوب العراق، والذين يقارب عددهم 400 ألف نسمة، وتقع قرية «الجبايش» على الضفة اليسرى لنهر الفرات، وعلى بعد يقرب من عشرين ميلاً غرب مدينة «القرنة»، وعلى مثل هذه المسافة تقريباً شرق مدينة «سوق الشيوخ»، وتتكون القرية من ألف وستمئة جزيرة صغيرة تمتد على شكل نطاق يحاذي النهر ويتجاوز الثلاثة أميال طولاً، ويتراوح عرضه بين المئة والمئتي ياردة، وتسمى القرية «الـﭽبايش» لأن كل جزيرة من جزرها مستحدثة أصلاً بفرش طبقات من القصب البردي والتراب بطريقة {التـﭽبيش}، ولذا تسمى الجزيرة الواحدة {ﭽباشة} والجمع {ﭽبايش}، والكلمة مأخوذة من الأصل العربي {الكبس} 
و{الكبائس}.
 
النظام الاجتماعي في الـﭽبايش
يقوم النظام الاجتماعي في القرية على أسس قبلية قوامها العشيرة والحمولة والفخذ والأسرة، فالأسرة هي أصغر وحدة اجتماعية تعيش على جزيرة مستقلة يغطي سطحها عادة الكوخ الوحيد الذي ينام فيه أفرادها كافة، ومضيفها، إن كانت تملك مضيفاً، ويرأس الأسرة دائماً أكبر الرجال سناً، وهو عادة الأب، ويتصرف جميع أفرادها اجتماعياً واقتصادياً تحت سيطرته ونفوذه، وينوب هذا الرئيس عن الأسرة ويمثلها في المجتمع، وفي الخصومات ودفع التعويضات العشائرية، إذ تتصرف الأسرة كلها كوحدة لا تتجزأ، وللنساء مركز اجتماعي واطئ في الـﭽبايش، ومن وجهة نظرهم هن مخلوقات ضعيفات العقل، ولا حق للمرأة في اختيار زوجها أو تطليقه، وخير دليل على مركز المرأة أنها يمكن أن تعطى كزوجة لمن يدفع أعلى مهر، أو إلى الأسرة أو الفخذ  المختصم معه كتعويض عن جريمة أقترفت من قبل رجل من أسرتها أو فخذها {وهذا الإجراء الأخير لم يعد له وجود اليوم فقد انحسر ذلك كثيراً، وصار بدله التعويض
 بالأموال}.
 
الأصل العربي.. والنسب الأبوي
 ويرى «سليم» أن أهل الجبايش من أصل عربي بدوي، ونظام القرابة بينهم قائم على الأسس البدوية، لذا فالنسب عندهم أبوي {Patrilineal}، والارث قائم عرفاً لا شرعاً على هذا الأساس أيضاً، ويظهر مبدأ النسب الأبوي واضحاً في علاقة الفرد بأهل أبيه وأهل أمه إن كانت الأخيرة امرأة غريبة عن فخذه وحمولته، فأهل أبيه أهله ومن لحمته، وينظر لهم كافة كأفراد في أسرته، في حين يعد أهل أمه غرباء، وحتى الخال وهو أقرب أهل الأم إلى الشخص لا يملك سلطة على أولاد أخته ولا حق له أن يتدخل في شؤونهم، أما العم فبمنزلة الوالد، وهو يشترك في جميع التعويضات التي تقع على أهل أسرة أخيه، ويستطيع أن يتصرف في كل ما يخص زيجات أولاد أخيه، وبمقدوره أن يقتل ابنة أخيه، كما يحق لأولاده أن يفعلوا ذلك لأمور تتعلق بالشرف، كما يفعل أبوها وأخوتها تماماً، من دون أن تترتب عليه أية عقوبات عشائرية، فإن قام بهذا القتل الخال فعليه أن يدفع الفصل، لفخذ الفتاة المقتولة، كما يتحتم على أي غريب أن 
يفعل.
 
الطبقات اجتماعية في القرية
وحدد {سليم} في مجتمع الـﭽبايش ست طبقات اجتماعية {Social Classes}، تقوم أربع منها على اساس الوراثة، ويتقرر عدَّ الفرد عضواً في الاثنين الآخريين على أساس اكتسابه صفات معينة كالسلوك الحسن والسمعة الطيبة والإلمام بالقانون العشائري وغير ذلك، والطبقة الأولى {السادة والموامنة}، وهم رجال الدين في القرية ولهم امتيازات وحقوق كثيرة تقوم كلها على أساس ديني، والطبقة الثانية {الشيوخ} وهم بيت الرياسة في العشيرة، ويقوم مركزهم في القرية على ماضيهم النسبي والقرابي، والطبقة الثالثة {السراﮔيل والمخاتير واجاويد القبيلة} وهم يمثلون أفراد القرية الذين يرقون للمركز عن طريق اكتساب صفات مفضلة في عرف المجتمع، والطبقة الرابعة {العوام}، وهم عامة الناس من السكان، والخامسة {العبيد}، والعبيد أصلا خدم للشيوخ، وكانوا إلى عهد قريب يباعون ويشترون، وينظر لهم كطبقة محتقرة لا يجوز الاختلاط بها أو التزاوج معها، والسادسة {الصابئة}، وهم أقلية دينية، يعدَّهم أهل القرية أنجاساً، فلا يتصلون بهم ولا يؤاكلونهم ولا يتزاوجون معهم طبعاً، وهذا التقسيم ناتج عن التأثير البيئي والثقافي  للمنطقة بشكل عام، وليس في هذه القرية
 فحسب.
 
النظام الاقتصادي والنسق الايكولوجي
واعتمدت دراسة {سليم} على الدراسة الوصفية التحليلية لنواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في القرية، ويقسم {سليم}، سكان الاهوار على أساس أساليب حياتهم الوظيفية، ليوضح أثر البيئة الطبيعية في المهنة التي يزاولها الفرد، إذ يعتمد النظام الاقتصادي بشكل مباشر على النسق الأيكولوجي، وهذا بدوره قد أثر تأثيراً واضحاً على البناء الاجتماعي لمجتمع القرية، وظهر من خلال الأدوار التي يؤديها الأفراد داخل النسق أو داخل البناء الاجتماعي عامة، كما ظهرت نتائجه على النسق السياسي من حيث التنظيم العشائري لسكان الـﭽبايش، ويقوم النظام الاقتصادي في القرية على جمع القصب وحياكة الحصر، والزراعة، وتربية الماشية، وصيد الأسماك والطيور، والهجرة الموسمية للعمل بأجرة، وعلى مصادر ثانوية أخرى، ولقد كانت الزراعة هي الطراز الطبيعي للحياة الاقتصادية، كما هي الحال في بقية المناطق الأخرى الواقعة في جنوب العراق، ولكن الفيضانات المتكررة الطاغية صيرت الزراعة الشتوية مستحيلة في منطقة الـﭽبايش، لأن الماء فيها يغمر الأرض هناك في موسم الزراعة الشتوية، أما الزراعة الصيفية فإنها أصبحت غير مربحة ولا مضمونة، لأسباب أهمها عدم انحسار الماء في وقت مبكر يضمن معه الفلاح الحصول على منتج جيد، ولأن محصوله بسبب البيئة القاسية يقضي عليه ويقتله، كما أن القسم الأعظم من ربح الفلاح يتسرب إلى جيوب{المرابين}، الذين يقرضونه مبالغ من المال لشراء البذور بربح مرتفع جداً يصل في بعض الحالات إلى 300 % وفق نظام معروف يسمى {الأخضر} ولذلك عزف أغلب أهل الـﭽبايش عن الزراعة، ومالوا إلى صناعة الحصر من القصب، فيخرج الرجال والنساء والأولاد فجر كل يوم في مشاحيفهم فيقطعون القصب من منابعه البعيدة في الهور ويعودون به الى أسرهم، ويشترك جميع أفراد الأسرة بهذا العمل، ومن ثم تباع الحصر لأصحاب الدكاكين أو التجار المحليين، أو تستعمل للمقايضة مقابل المواد الغذائية 
وغيرها. 
 
النقد لأوضاع الـﭽبايش
وينتقد {سليم} الأوضاع في مناطق الأهوار، ويرى ان الحكومة أهملت المشاريع الاصلاحية الضرورية في مناطق الأهوار بشكل عام، والـﭽبايش بشكل خاص، والتي لو نفذت لساعدت كثيراً من رفع مستوى المعيشة في الـﭽبايش وغيرها من المناطق، ويلمس ذلك في تذمر أهل تلك القرية الذين يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأن الحكومة لا تريد لهم الخير، وأنها تستطيع أن تفعل كل شيء، ولكنها لا تفعل، وهذا ما ولد عندهم خيبة أمل مريرة من اصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وأنها لو قامت ببعض المشاريع الاصلاحية لقلبت حال القرية، ولتغير حالها المزري الى افضل حال... واخيراً يمكن القول بأن هذه الدراسة كانت توصيفاً دقيقاً وتصويراً شمولياً لمجتمع الـﭽبايش، ورغم الصعوبات جاءت بنتائج هي الأقرب إلى الواقع، والتي اظهرت لما للقيم القبلية من أثر في تكوين شخصية الفرد في هذا المجتمع، من خلال نظم البناء الاجتماعي والاقتصادي والديني
 والثقافي.