وهم الهجرة إلى...

ثقافة 2021/07/27
...

ياسين النصير
 
 نشأ هذا الوهم يوم انتقلت إلى بغداد قادمًا من البصرة عام 1970، حين شعرت أن بغداد مدينة الحلم بمثل ماكانت البصرة بالنسبة إلى قريتي الشرش، حلم العمران والتنظيم والشوارع وبيوت الآجر والكهرباء،  وإذا بالحلم يتسع عندما تجد العلاقات في بغداد وقد اكتسبت طرائق وطاقات جديدة للحضور لم توفرها لي القرية أو مدينة البصرة، بالرغم من خسارات عريقة ولدت لي في البصرة مع بساتينها وأحيائها وأسواقها وسفنها ومقاهيها والاصدقاء القلة الذين اتخذتهم رفقة درب،  إلا أني تركت كل هذا الإرث الجميل بحثا عن أفق معرفي كنت اعتقده الأجمل، فكانت بغداد هي المنارة التي تشد الرحال إليها. ولكني فوجئت أن الأحلام ليست دائمًا توفر لك أمكنة جيدة، فوجدت في بغداد الخشونة والحدة والضحك على الذقون والغش ابتداء من سواق التكسي وأصحاب الفنادق وصولا الى مؤجري البيوت وأصحاب المحال، بما فيهم بعض المثقفين الذين كانوا يشرفون على مصادر الثقافة، ناهيك عن الباعة واسواقهم المنزوية عن الانظار، كما وجدت الكثير ممن هم من اجيال سابقة؛ صادقين ومؤتمنين واتقياء واصحاب شيمة ومواقف، وكأي بصري يخجل من الافصاح عما يعانيه من اغتراب مع هذه الحياة القاسية والحادة، كنت اتحمل نتائجها بالصمت، حتى حسب البعض أن صمتي جبنًا أو خوفًا أو هو في أقل تقدير انني لا استطيع مجابهة أحدٍ لربما تلقيت ما لا يحمد عقباه. هذا ليس على المستوى الحياتي فقط، بل على مستوى التنظيم السياسي الذي انتميت له. لا فرق فالناس هم الناس اما عقائدهم فهي دروب اخرى للاختفاء خلفها، ودائمًا لا تقترن العقائد بالسلوك الشخصي إلا عند ذوي الخبرة. كنت في بغداد اخشى كل شيء وكأني ولدت من جديد من دون ابوين ومن دون تجربة مريرة، ها انا بمواجة زمني الذي اخترته ومعي نصف دزينة من الابناء وعلي أن أوفرلهم حاجياتهم، فضلا عن أبوين عاجزين بقيا في القرية متلصقين بالمكان الذي اسساه ولم يغادراه حتى في اعنف هجوم لايران المسلمة على  قرانا وحقول مجنون وعلى قضاء القرنة وقراه. 
أحمال كبيرة وثقيلة ورثتها فضلا عن امتلاكي حصيلة لابأس بها من معرفة الحياة الشعبية لصناعات القرية ودروبها واعمالها ومهنها واشعارها وقصص الحب والعشق فيها، كما اعرف طرائق الوصول لقلب الاصدقاء بسهولة ما املكه من معيشة راضية وفرها الأب لنا وابعدنا عن غائلة الفقر والحاجة، ومع ذلك لم ينفعني هذا الخزين لمواجهة الحياة القاسية في بغداد، بعد ان تعرفت على مجموعات من الأشخاص لايؤتمنون من دخول بيتك فكيف وانت البصري تأمنهم بطبيعة سخائك وانسانيتك على أفكارك ومشاريعك، واذا ببعضهم جربان سود يتحيلون الفرص للاساءة لك. ليس الخلل في المدن كما يعتقد البعض، فالمدن كائنات حية تهتم بما يديم حضورها في حياة الناس، ومن يعتقد أن المدينة لا تستجيب لحاجات الناس او تتحول وفق ما يريدون، هم على خطأ،  فالمدينة كائن حي ولكنه عندما تهمله يمرض ويعتل وتسوء حياته، والنتيجة ما نعيشه اليوم في مدننا العراقية، عندما اصبح قادتها ومسؤولوها من الفئات الشعبية، فقادوها حيث يردون ان تكون، فما كان من المدينة إلا أن خضعت لرؤيتهم وافكارهم الاقتصادية والعمرانية، وفي اقل من عشر سنوات عادت مدننا العراقية ومن بينها بغداد العاصمة التي كانت تشتهر بتنظيمها العمراني والاقتصادي والثقافي لتصبح بلدة مليئة بالنفايات ويحتل ارصفتها وشوارعها جماعات طائفية لتتغير المدينة العريقة إلى نقيضها ليس استجابة لما يفكرون به فقط، إنما لضعف دورها التنظيمي في بنية اقتصاديات البلاد المختلفة.