السيري الغيري في (الوجه صبيا: نزيف الرغيف) لمحمد خضير

ثقافة 2021/07/27
...

  كمال عبد الرحمن
 
ما إن يظهر جنس أدبي جديد حتى تقوم قيامة الباحثين والدارسين والنقاد والمنظرين، كلٌّ يكتب بما يراه يمثل اضافة ما الى هذا النوع من الادب، ووصلت الموجة الى (السيرة الذاتية) التي قال عنها بعضهم انها الوريث الشرعي للرواية أو البديل الوحيد لها، فقامت قيامة جديدة يقودها نقاد اجانب وعرب، فضلا عن كثير من الطروحات والكتب والرسائل الجامعية التي اشتغلت على هذا الجنس الادبي الجديد حصرا، ولكثرة ما كُتب عن (السيرة الذاتية) زعم الإنشائي الفرنسي فيليب لوجون ان السيرة الذاتية هي (قارة) بأكملها.
ولدينا خمسة أنواع من السيرة:
** السيرة الذاتية (شخص يروي سيرته بنفسه)
** السيرة (سير الأنبياء والعظماء والزعماء وغيرهم)
** السيرة الغيرية (سيرة الاهل والاقرباء والمعارف والاصدقاء والاعداء)
** السيرة الجمعية (سيرة جماعة او قبيلة كسيرة بني هلال)
** سيرة وطن (ومنها: أمواج: عبد الله ابراهيم).
في (الوجه صبيا: نزيف الرغيف) لمحمد خضير، يتجاوز السارد الكبير سيرته، ويتفرغ للحديث عن (سيرة غيرية) لآخرين تمتد تفاصيل حكاياتهم (من الذاتي الى الموضوعي) أي (من الذاتي الى الغيري)، إذ ينشغل السرد بمعاينة شخصيات تتعالق ذهنيا مع تفاصيل حياته اليومية: (يتذكر بيت الخبازة، نار التنور في أول الطريق، وقصبات العلم في نهايته، الطين المفخور أول صورة للتكوين، والرغيف الأبيض أول تشكيل للجمال، والطباشير والأقلام والحروف والسبورة والدفاتر تختتم رحلة التعلم اليومية، الخبازة أمام اللهب، والرغيف المحمص الى يدي ابنتيها الجميلتين).
يبدأ النص بـ (صورة غيرية)، مشهد يتنامى مع سرد تدريجي، يشكل نوعا من بانوراما، إذ تتحرك الشخصيات، وتتعالق مع تفاصيل يومية من دون أن تكترث لوجود السارد أو تهتم به، وهو الذي حول باصرته الى كاميرا سردية، تلتقط أدق مشاعر الآخرين، وكأنه ليس موجودا في النص، وليست له القدرة على تغيير مقدرات السرد، وهو الشاهد وليس أكثر من ذلك، مع أن باستطاعته تبادل الأدوار مع (رغيف خبز)، واذ يتذكر هذا الرغيف، فإنه يتذكر: (استراحات الطريق الثلاث قبل الوصول الى المدرسة: شجرة الخرنوب، والقنطرة، والمطحنة، يتذكر دراجة مدير المدرسة، وعربة نزاح الكنف وحماره، وابن النزاح اليتيم يتربع على صندوق الفضلات مترنحا.. بعدئذ يصل ابن فراش المدرسة، وابنة الخبازة، وابن الطحان، وأبناء الفلاحين فيلتئم شمل الصف).
ان الاشتغال على (النص السيري الغيري) يحتاج الى نوع من التبئير أو الرؤية التي تشتغل من خارج النص، فممكن أن تكون رؤية (جانبية) أو (رؤية من الخلف) ولكن ليس (الرؤية من الأعلى)، اذ ان السارد هنا يمثل دور الشاهد على حركيات وأفعال الحياة اليومية في المنطقة، ومن الجدير بالذكر أن الكاتب هنا ليس بمقدوره أن يمارس دور الحاكي العليم أيضا لتشتت الشخصيات واختلاف نماذجها وأدوارها في النص، والسيري الغيري هو (سيرة) لكن يختلف  فيها أمران، الأول: يكتب السارد عن شخص حي او ميت منذ زمن قريب، والثاني: يعرف السارد الكثير من تفاصيل هذه الشخصية من خلال علاقته المباشرة أو غير المباشرة بها، والمباشرة: قد يكتب الراوي عن ابيه، وغير المباشرة كما كتب لوجون عن جد ابيه، إذ يقول: بعد أن اشتهرتُ كمنظّر للسيرة الذاتية، فاجأني والدي ذات يوم بقوله (ألست تشتغل على السيرة الذاتية؟ سأريك إذن شيئاً يهمّك)، ثم أتى بمخطوط وقال لي (هذه أوراق كتبها جدّي إيكزافييه إدوار عن حياته).
والنص السيري الغيري بحث يذكر فيه الكاتب حيـاة بعض الأشخاص، فيسرد في صفحاته حيوات أصحاب هذه السير أو الترجمة ويفصل المنجزات التي حققتها، وأدت إلى ذيوع شهرتها، وأهلتها لأن تكون موضوع دراسة، وهذا ما يؤكد أكثر أن الرواية الفنية التي تروي السير الذاتية لأصحابها لا يمكنها أن تنسلخَ عن حياتهم، بل إن نفس الكاتب ذات حضور لافت للنظر. فما أكثر الروايات التي انكب النقاد على استخراج ما فيها من عناصر سيرذاتية، وما ذلك إلا لأن أصحابها استلهموا فيها ذواتهم وشخوصا من معارفهم.
يوجه السارد محمد خضير كاميرته السردية نحو أدق التفاصيل التي تشكل مجتمعا صغيرا غير متجانس، ولكنه في الأخير يندمج مع جزيئاته، لتتشكل منه لوحة انسانية جذابة وخلابة:
 (النزّاح تزوج الخبازة، وابنتها صارت معلمة وتزوجها ابن الطحان، وهذا طحنته قنبلة، والمطحنة عطلت، شجرة الخرنوب قطعت، واستبدلت بالقنطرة المنخورة، التنور خمد، والرغيف هاجر، ابن الفلاح ورث بستان الخس، الحمار مات، السلاحف اثقلت سيرها السنون، تقاعد المدير وفراش المدرسة، ابن النزاح خلف أباه في المهنة. الرغيف يتذكر، الرغيف ينزف..). 
مما لا شك فيه أن المؤلف عندما يشرع في كتابة نص أدبي يكون مراعيا ــ مسبقاً ـ لايدلوجية كتابية معينة، تفرضها نوعية النص الذي هو بصدد كتابته، وطبيعة القارئ الذي سيوجه اليه نصه، كما أن القارئ عندما يشرع ايضاً بالقراءة، فإنه يضع ثوابت لا بد من توفرها في النص، تتعلق بالنص الذي أمامه، ونوعية العدة المعرفية التي يجب أن يشحذها، وهو يتهيأ للغوص في أغوار النص بغية الكشف والتحليل، ان تحديد الهوية النوعية للنص يُمكّن الناقد من معالجتها نقديا في ضوء معايير وقواعد النقد الذي ينتمي اليه.. فمنذ فترة اشتق النقد له جملة من المعايير يقترب في ضوئها من النصوص ليقوم بفحص النُظم الأسلوبية والبنائية والدلالية لها، وذلك جزء من التنظيم الداخلي الذي يقتضيه كل نقد يطرح نفسه بوصفه حواراً مع النص، واشتباكاً معه، ووسيلة لاستكشاف المستويات المضمرة فيه ودلالاته المخبأة في تضاعيفه.لكن هذا التصنيف الأجناسي أو النوعي للنصوص لم يعد أمراً يسيراً في بعض الانواع المهجّنة التي أخذت تتمازج في ما بينها لتشكل نوعاً ادبياً آخر، ويتضح ذلك على نحو جلي في السيرة الذاتية (الغيرية) عندما تتداخل مع غيرها من الأنواع الأدبية لتشكل بذلك أنواعاً أدبية اخرى لها خصوصيتها النوعية المتشكلة من تهجين نوعين ادبيين مثل امتزاج السيرة الذاتية الروائية أو الرواية السير ذاتية مع ملاحظة الفرق بين النوعين.
النص الذي كتبه السارد الكبير محمد خضير، هو سيرة غيرية لمجموعة من البشر، تتجانس، ثم تفترق، ثم تتداخل وتتباعد، لكنها في الأخير تجنح نحو معجزة أو نوع من التماهي لتشكل صورة انسانية خالدة في ضمير المكان المجهول/ المعلوم.